أحمد العسكري: من يملك وسيلة إعلام هو من يوجّه ويستقطب
الصفحة الرئيسية > تجربة > أحمد العسكري: من يملك وسيلة...
أحمد فواد العسكري، صحفي وشاعر وكاتب تلفزيوني عراقي مقيم في إمارة دبي. عمل محررا في وكالة الأنباء العراقية وجريدة العراق بين عامي 1998 و2002، ثم تحول للعمل التلفزيوني كمراسل لعدد من القنوات الفضائية مثل LBC اللبنانية وsbs الاسترالية حتى 2006 حين غادر العراق للعمل في إمارة دبي مديرا لمكاتب القنوات السعودية في دولة الإمارات العربية حتى عام 2011. يشغل العسكري أيضا مقعد باحث في الشؤون الإيرانية في مركز الخليج العربي للأمن والسلام. عن تجربته كصحفي غطى أحداث واحدة من أصعب الفترات التي مرت على العراق كان لـ”بيت الإعلام العراقي” هذا الحوار:
-بخلاف التطلعات التي سادت بين أبناء جيلك كان حلمك العمل صحفيا، فمن أين أتى اهتمامك بالصحافة؟ وبمن تأثرت؟
*في نهاية التسعينيات وبسبب ما أفرزته آثار الحصار الاقتصادي على المجتمع العراقي بدأ شكل جديد من أشكال الصحافة الاستقصائية بالتبلور داخل الأوساط الصحافية العراقية، أول ما جذبني إلى هذه المهنة هو قدرتها على الاقتراب وملامسة معاناة الناس وترجمة ونقل تطلعاتهم على الرغم من الضوابط التي كانت تفرض على شكل التغطيات الصحفية في زمن النظام السابق وهامش الحرية البسيط الذي كانت أقلام الصحفيين العراقيين تتحرك من خلاله إلا أن الالتزام والمهنية وتحري الدقة والأمانة فضلا عن رصانة اللغة الصحفية المتداولة هي من أبرز سمات تلك المرحلة، من أهم الكتاب والصحفيين الذين تأثرت بهم وكنت أقرأ لهم بشغف هو الصحافي المصري الكبير محمد حسنين هيكل. في نهاية التسعينيات تم تعييني في وكالة الأنباء العراقية في قسم المحليات وهي تجربتي الأولى والاهم مهنيا، حيث تسنى لي التتلمذ على يد صحفيين كبار من أمثال الأستاذ نوري الزكم وغيره والذي كان يدعمني في اختيار موضوعات للتحقيقات الصحفية التي كانت تعد جريئة في وقتها رغم أني كنت اصغر صحفي في وكالة الأنباء العراقية ومستقل سياسيا لكني لم أجد مضايقات تذكر. في البداية تخصصت في عمل تحقيقات تتناول إبداعات العراقيين وتكيفهم مع ظروف الحصار ومن ثم بدأت بالاقتراب من تناول الظواهر السلبية والقصص المأساوية وآثار بعض الممارسات الأمنية لأجهزة الدولة آنذاك والغريب أني اكتشفت أن هكذا تحقيقات كان مرحبا بها على عكس ما كنت أتصور ويتصور زملاء أقدم مني وأكثر خبرة.
-أكان ذاك تسامحا غفل عنه الوسط الصحفي أم كان محاولة لإظهار نوع من المصداقية لأخبار الوكالة وهي تخاطب العالم؟ وهل أغراك باختبار صبر السلطة بمثل هذه التحقيقات؟
*في تقديري الشخصي كان النظام يستشعر خطر الضغوط الدولية بالإضافة إلى التذمر الشعبي من جراء الحصار لذلك كان يحاول التخفيف وإيجاد متنفس من خلال منح بعض الهامش من الحرية للصحافة المحلية وإعطائها الفرصة بلعب دور رقابي محدود.
كانت تلك التحقيقات تمثل شكلا من أشكال المتعة بالنسبة لبعضنا لم نكن لننتقد النظام أو مؤسساته بشكل مباشر، لكن كنا نكشف بعض الحقائق والممارسات التي تنتهجها بعض أجهزة الدولة.
أضرب لك مثلا عن تحقيق عملت عليه مع أحد الزملاء أحصينا من خلاله عدد الأجهزة الحكومية التي من حقها اعتقال المواطن من دون مذكرة قضائية وكانت 22 جهة بضمنها أمانة العاصمة بغداد التي كانت تعتقل الباعة المتجولين والمخالفين والمتجاوزين على الأرصفة، كنا نتوقع أن لا ينشر ولكن المفاجأة أن تم شكرنا عليه.
أعتقد أن النظام كان يسعى لإيجاد شكل من أشكال الإصلاحات فيما يتعلق بالحريات نهاية التسعينيات بعد أن شعر بعزلة دولية وإقليمية وسخط وتذمر شعبي.
-كان الانتقال جذرياً من صحافة الحد الأدنى إلى صحافة لا تتقيد بأي حدود، فكم احتجت شخصيا لتستوعب هذا التغيير المتطرف، وكيف رأيت تعامل الوسط معه؟
*مع التغيير أو ما يسمى بالانفجار الإعلامي الذي أعقب دخول قوات التحالف إلى العراق ظهرت طبقة جديدة أو جيل جديد من الإعلاميين لاسيما العاملين في الصحافة التلفزيونية الذين عملوا مراسلين للفضائيات العربية والأجنبية إلى جانب زملاء إعلاميين شغلوا مواقع في المؤسسات المحلية التي بدأت تفتتح بكثرة في العراق إن كانت مستقلة أو تجارية أو تلك المملوكة للأحزاب العراقية التي كانت تحاول ملء الفراغ السياسي الذي خلفه انهيار النظام السابق.
قد أكون محظوظا كوني عملت مراسلا لمؤسسات عربية وعالمية قبل ٢٠٠٣ وشاركت بتغطية الأحداث قبل وخلال العمليات العسكرية واحتلال بغداد. بالتالي اكتسبت بعض الخبرة في التعاطي مع الأحداث والتطورات بشكل من أشكال الموضوعية والحس الصحفي.
تحولت مباشرة من الإعلام المكتوب إلى الإذاعي والتلفزيوني ثم ما يعرف الآن بالسوشيال ميديا أو الصحافة الالكترونية. ومن اللافت أن صيغ وآليات الإعلام تطورت عالميا منذ 2004 و 2005 بحسب أراء خبراء الإعلام وكان التغيير حتميا مع تطور وشيوع الانترنيت وما قدمه من تسهيلات وفرضه من تحديات على وسائل الإعلام المختلفة اعتقد أن المنهجية الإعلامية تطورت عالميا منذ تلك الفترة وان الأمر لا يتعلق بالعراق والإعلام العراقي ليس بمعزل عن ظاهرة إعلامية متكاملة تستدعي مواكبتها واللحاق بها عراقيا.
-العنف الموجه والعشوائي لم يستثني أحدا في العراق منذ نيسان 2003 لكن استهداف الصحفيين كان أولوية لجميع الأطراف، فكيف تكيفت مع هذا المستوى المرتفع من المخاطر؟ واجهت تهديدا مباشرا؟
*من المفارقات التي عشناها كصحفيي ميدان بعد دخول قوات التحالف وغياب أجهزة الدولة العراقية بشكل كامل هي تلك الحساسية التي كانت تطبع المواطن العراقية في علاقته مع ممثلي وسائل الإعلام. كنا نسمع يوميا صرخات العراقيين الغاضبين والتي يرددون فيها خاصة في مناطق الوسط والجنوب مخاطبين الصحفيين (انقلوا الحقيقة لم لا تنقلون الحقيقة) وفي حقيقة الأمر كان المواطن يدور في دوامة غياب السلطة والفراغ الإداري والأمني فلم يجد أمامه غير (السلطة الرابعة) لتوجيه غضبه وحيرته باتجاهها.
لم نكن الوحيدين كصحفيين عراقيين نمر بمرحلة انتقالية إعلاميا نتلمس من خلالها ملامح الحرية الإعلامية المطلقة، إنما كان الرأي العام والمزاج الشعبي يحاول اكتشاف وهضم كل تلك المعلومات والصور وما تحمله من صدمات وآثار كونه اعتاد على الإعلام الحكومي الموجه ويحتاج إلى بعض الوقت والجرأة في اختيار الوسيلة الإعلامية التي تمثل تطلعاته وتعكس توجهاته.
كان ذلك قبل ولادة مفردة الطائفية في العراق وأذكر حين وقع أول انفجار مفخخة في بغداد واستهدف مبنى السفارة الأردنية قرب ساحة اللقاء سابقا. كان فريقنا الصحفي أول من وصل إلى الموقع وبمجرد أن رآنا المواطنون المتجمهرون انهالوا علينا بالضرب وكسروا كاميراتنا، متهمين إيانا بالعمالة وعدم نقل الحقيقة. كان يجب أن نتوخى الحذر ونتعاطى مع المواطن المرتبك والمصدوم بالكثير من الهدوء والدبلوماسية.
بعد تلك المرحلة بدأت معاناتنا مع الجيش الأمريكي لاسيما بعد تعرض جنوده لهجمات دامية فهامش الثقة بدأ بالتلاشي بين الصحفيين العرب وبين عناصر الجيش الأمريكي وحدثت حالات فقد خلالها جنود أمريكان أعصابهم بعد تعرضهم لهجمات بالعبوات الناسفة واخذوا يطلقون النار على الفرق الصحفية التي تباشر تصوير وتغطية تلك الهجمات ثم انسحب الأمر تدريجيا على بعض تشكيلات الأمن العراقي حديثة التأسيس في وقتها، ويذكر زملاء عديدون ما تعرضنا له من رصاص واعتقالات لدى تغطيتنا لأحداث النجف والمعارك بين جيش المهدي والقوات الأمريكية وقتها، وأخيرا ما تمارسه قوى التطرف وبعض الجماعات المسلحة.
يكفي أن أخبرك انه خلال السنوات الثلاث من 2003 حتى 2006 تم اعتقالي خمس مرات من قبل الأمريكان والشرطة العراقية وتم اختطافي 3 مرات في الفلوجة وسامراء وحصيبة قرب القائم كما كنت أتنقل طيلة الأشهر الستة الأولى من العام 2006 بحماية الشرطة العراقية قبل أن يتم إحراق منزلي في شارع حيفا ببغداد.
-برأيك ما كان سبب غضب جميع الأطراف من الصحفيين؟
الغضب كان السمة السائدة وقتها فالجميع غاضب من الجميع وبسبب حساسية العلاقة بين القيادة العسكرية للتحالف والطبقة السياسية القادمة حديثا من جهة وبين هؤلاء والفعاليات الدينية والشعبية كما هو الحال مع الصدريين وهيئة علماء المسلمين وعلاقتهم بالقوات الأميركية من جهة أخرى كان ممثلو وسائل الإعلام هم الحلقة الأضعف في تلك المعادلة، لذا كنا نتحمل كصحفيين نتائج التباين في وجهات النظر تلك على شكل عنف وتهديدات وسوء الفهم والظن والتدخل في عملنا الإعلامي.
- في ظل هذا الاستقطاب السياسي والطائفي والقومي هل كان للصحفي العراقي من دور فعلي يلعبه؟ ففي حالة لبنان صاحب التقاليد الصحفية الأكثر رسوخا والتعددية السياسية الأقدم، يبدو أن الصحفي عاجز عن التأثير على الطبقة الحاكمة.
*في هذا الإطار قد يكون لبنان والعراق سبقا العالم العربي إعلاميا من حيث نموذج الاستقطاب الإعلامي فحين يذهب خبراء الإعلام إلى وصف المشهد الإعلامي العربي بالضبابي حاليا من جراء مشكلة الاستقطاب في أعقاب ثورات "الربيع العربي"، حيث بات من يملك وسيلة الإعلام هو من يوجّه ويدير ويستقطب نرى أن العراق ولبنان سبقا البلدان العربية بسبب التغيرات الدراماتيكية التي شهدتها أوضاعهما السياسية.
ربما تتلخص مشكلتنا الإعلامية في العراق بقوة وتأثير الإعلام الحزبي الممول بشكل جيد قياسا بالإعلام شبه الرسمي فضلا عن ضعف وفي أحيان كثيرة غياب الجهات الرقابية والقوانين المنظمة للعمل الإعلامي وفق ضوابط مهنية عالية الدقة بذرائع مختلفة أولها الحريات وضمان الأجواء الديمقراطية الضرورية لعمل الإعلام إلا إنها غالبا ما تسهم بإنتاج حالة من الانفلات الإعلامي تسهم في دفع المتلقي إلى مصادر خبرية يعتقد أنها أقرب إليه وأكثر ملامسة للحالة السائدة على الرغم من إخلال تلك المصادر وأهمها عراقيا موقع فيسبوك بأبسط الضوابط الإعلامية ومنها اللغة المستخدمة والمهنية في التعاطي مع الأحداث لذلك هنالك أصوات بدأت تتعالى داخل أوساط المختصين محذرة من خطورة تحول الإعلامي إلى ناشط مدني أو مدون في غياب العناصر المنظمة للعمل الصحفي.