أعط الخبز للصحفي واللحم للصحفي
الصفحة الرئيسية > أفكار > أعط الخبز للصحفي واللحم للصحفي...
الـ 30 سنة من الانحطاط المستمر للمؤسسة التعليمية في العراق وكوردستان، انتجت اجيالا من انصاف المتعلمين الذين اينما التفتوا حولهم في اماكن احترافهم لا يجدون شيئا يواجههم بحقيقة جهلهم الفاحش. واذ يتقطر الجهل شكلا ومضمونا من كل ما ومن حولهم، يصبحون جميعا في نظر بعصهم البعض خبراء!
لحسن الحظ، لا يملك اغلب خبرائنا هؤلاء فرصة اذاعة جهلهم للملأ فيقتصر انجازهم على ازعاج جزء صغير من حياتنا اليومية و تجفيف نويبع من ينابيع تفاؤلنا بالمستقبل، كل حسب "أختصاص"ه. ولكن، بين هؤلاء فئة تملك منابر يومية لأعلان مانيفيست جهلها بفخر و اعتزاز... بل انها عنصر فاعل في حملة التجهيل اليومية للمواطن، و هم فئة صحفيينا المحترفين الغارقين في الجهل. والكلام هنا ليس عن بعض من الصحفيين ولا كل الصحفيين، بل و للأسف اغلب الصحفيين!
دعك من سيل الأخطاء اللغوية الذي يغمر خطابهم، فقد تعودنا على ذلك لدرجة الشك في لغة آبائنا و اجدادنا، إذ أن مصيبتهم ادهى و امرَ. هؤلاء الخبراء الذين يفترض بنا ان نتطلع اليهم للحصول على المعلومة والخبر، لا يملكون من مخزون المعرفة ما يمكنهم من منافسة طالب جامعي مهمل في نظام تعليمي بال، و لايرون حاجة لطوير حالهم هذا، يوما ما.
الى هنا و رضينا بالقسمة صاغرين... و لكن، يحدث، بين الحين و الآخر، من "الأبداع" في العمل الصحفيي ما لا يمكن السكوت عنه. مثال ذلك ما حدث منتصف أيار في السليمانية.
قبل سرد ما حدث لابد من تمهيد:
دراسة الطب هي من الدراسات النادرة في النظام التعليمي العراقي المنهار التي حافظت على بعض مهنيتها، و طلبتها من القلة الذين يجتهدون حقا في الدراسة . بعد تخرجهم يمضي معظمهم حياة اشبة بالعبودية في المستشفيات و المراكز الصحية في ارياف وقرى و مدن العراق. ويعالج الواحد منهم العشرات و يراجعه المئات للتشخيص والمتابعة، في اليوم الواحد. نتوقع هذا من اطبائنا في وقت تحولت اغلب المرافق الخدمية الحكومية الى مقاه واماكن لتقميع البامية و الدردشة عن حلقة الليلة الماضية من المسلسل التركي.
رغم المآخذ العديدة المحقة فأن الفاعلية النسبية للنظام الصحي في العراق و كوردستان، هي احد الأسباب الايجابية الرئيسة للمخطط التالي الذي يقارن بين 127 دولة من حيت الناتج المحلي الفردي من جهة (المحور السيني) و مقياس جيني للعدالة الأقتصادية (المحور الصادي) في عام 2008.
اللافت للنظر في هذا المخطط انه لا يوجد بلد في نفس مستوى العراق من حيث الناتج المحلي الفردي، اكثر عدالة من العراق! أي ان العراق هو الأعدل ضمن فئته. من اهم ما يفسر ذلك هو نظامنا الصحي العام الذي يتيح للفقراء الحصول على الخدمات بشكل مساو، نسبيا، للأغنياء. هذه المساواة النسبية مردها خدمات متفانية يقدمها الأطباء و التقنيين و عمال الصحة في العراق، في ظروف معاشية و امنية لا يحسدون عليها.
بعد هذا السرد لواقع الحال آن لنا أن نتحدث عما جرى من أبداع صحفي منتصف أيار في السليمانية. فقد قام شخص اتيحت له امكانات منفذ اعلامي من دون ان يتاح له تعلم مهنة الصحافة بعمل "مقلب" صحفي على مستشفى الطوارىء في السليمانية، فإدعى آلام شديدة في الكلية. بناءا على ادعائه طلب الطبيب الخفر فحص بوله في مختبر الطوارىء. هنا قام الصحفي الألمعي بسكب الشاي في انبوبة الفحص بدلا من البول، وفي باله انه اذا لم يكشف امره حصل على "سبق صحفي" بفضح المستشفى، وإن كشف امره لن يكلفه ذلك سوى ابتسامة ساحرة وقول: ابتسم، انت امام الكاميرا الخفية!
لم يدرس الطبيب في الجامعة ذلك الفصل من كتاب الطب الذي يعلم الأطباء عدم تصديق من يدعي الألم المبرح في مستشفى الطوارىء. اما تقني المختبر اهمل تذوق السائل ليتأكد من أنه بول (؟) و جهازه كان من النوع الغبي الذي لم يبرمج على التحقيق في صحة ادعاء المريض، بل كان جل عمله هو البحث عن مواد معينة في السائل، بغض النظر عن كونه بولا او لا. والصحفي الألمعي كان أجهل من ان يعرف ان الشاي يعد بالماء و مياه الشرب في كوردستان كلها فيها ترسبات كلسية تفوق المألوف، وهذا ما كشفه الجهاز و كتب التقرير على اساسه. ولما وصل التقرير الى الطبيب الخفر في مستشفى الطوارىء، قرر استنادا الى التقرير والى ادعاء الـ"صحفي" ألألم المبرح، فأعطاه الأدوية و التوجيهات الخاصة بالحصو في الكلية. وطلب منه أن يجري المزيد من الفحوص لدى طبيب مختص، و هو ما كان سيفعله أي طبيب في أي قسم للطوارىء في العالم.
لم يدرك الطبيب-الضحية أن الصحفي الألمعي كان يسجل الحوار ليعرضه كسبق صحفي في منفذه الأعلامي. وهو ما كان سيدخله السجن في أي بلد يحترم فيه حقوق الأنسان، لأسائته استخدام خدمات الطوارىْ الصحية، مدة كانت تكفي ليتعلم فيها اصول العمل الصحفي النزيه، أن اراد! ولكنه محظوظ لكونه يعمل في بلد يسمى انعدام الأحساس فيه سبقا صحفيا تفخر به مؤسسته الأعلامية و تتخندق من اجله مقابل اطباء و عاملي الصحة في مدينة بأكملها.
آن لصحفيينا أن يتعلموا ان مهنتهم ليست استرزاقا فحسب، بل مسؤلية أخلاقية لابد لهم من معرفة ترفعهم الى مستواها. وحمل شارة الصحافة لا تغنيهم عن السعي للمعرفة.
* الأصل هو مثل كردي يقول: أعط الخبز الخباز و اللحم للحام. و القصد منه أن لا تنصب نفسك خبيرا فيما تجهل!