الإعلام الحر وصلابة الميديا الشعبية
الصفحة الرئيسية > أفكار > الإعلام الحر وصلابة الميديا الشعبية...
عندما تشيخ الأفكار الكبرى وتموت، ينتج عن ذلك تحولات اجتماعية وسياسية بارزة. بكل أسف شاخت أفكارنا الكبرى، لكنها لم تمت بعد. العراق لم يرَ - إلى الآن - تحولات كبرى تعالج أسسه القيمية البالية، والتي يمهد معالجتها إلى تغيير شامل في نمط الحياة.
التحولات السياسية التي مر بها العراق لم تتمكن من صناعة وعي جماهيري مرن، مرونة تمكنه من التعاطي مع المتغيرات التي تحدثها مراكز القوى الدولية على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وغالبا ما يرافق أي تحول سياسي اجتماعي إعلام يترجم حركة التغيير وانسيابيته وتعثراته ويقابله إعلام مضاد تفرزه بدهية التضادات التي تكتنف عملية التغيير.
شهد العراق بعد عام 2003 انفتاقا ميديويا ضخما ومتنوعا، كان من شأنه أن يكون عاملا رئيسا في إحداث التغيير. وهنا، لا بد من تعريف مبسط لدور الإعلام، فعلى المستوى ألتنظيري، تمتهن الميديا وظيفة محددة، هي: جمع كل أوجه الحقيقة التي ترسم الحدث وتنقلها للجمهور بحيادية، وان تسعى للهيمنة على وسائل الإدراك أو الاستحواذ على أدوات الفهم للمُستقبِل/ الجمهور. لكن على الرغم من التطور الذي ارتقى بالمستوى الإعلامي، على الصعيدين الأدائي والتقني، إلا انه لم يتمكن من تمرير رسائله الإعلامية التي اصطدمت بعقبات حرفت مسارها.
وبات كثير من المنابر الإعلامية تتخذ من الانفعال أداة لتسويق بضاعتها، وهي بذلك تخاطب الوعي الشعبي. كان الإعلام في زمن الحكم السابق محصورا بيده ويمرر للمتلقي ما يشاء، نظرا لتفرده بالسلطة، أما بعد العاصفة التغييرية والتي اجتاحت كل مفاصل الدولة العراقية، تهدم كل شيء تقريبا، منطقة الإعلام، أو، المجال الإعلامي لم يكن بعيدا عن مؤثرات هذه العاصفة، ففضلا عن استثناء العراق من الميديا الفضائية بحكم اختزال حكم البعث وحصر اغلب روافد الإعلام بيده، إلا أن الشعب العراقي كان يعتمد على مدخلين أو شكلين لوجه المعلومة، فهي أما أن يرسمها إعلام النظام أو الإعلام المضاد له، وفي ضوء ذلك صار من الطبيعي أن تتشكل أوجه المعلومة لدى الجمهور وفقا لنسيجه الاجتماعي، إذ كانت الميديا البعثية مرفوضة من قبل الكورد في شمال العراق والشيعة في جنوبه، ولكل من هذين المكونين الاجتماعيين يملكان روافد مضادة لإعلام النظام، وهو الإعلام الذي يفرزه الوعي المعارض للنظام السياسي.
إن السواد الأعظم من المجتمع العراقي لا يملك وعيا كافيا يمكنه من فلترة الإعلام الملوث، سواء كان الإعلام الحزبي/ الشعبي أو الإعلام الحر، كما انه غير قادر على استيعاب ضخ شحنة مكثفة من وسائل الإعلام الموجه والمضاد بهذا الحجم الذي شهدته الساحة الإعلامية العراقية في السنوات التي تلت التغيير، إذ سببت ربكة في مستقبلات الوعي الاجتماعي، وأحدثت تخمة أعيته كثيرا وأفقدته أدوات التقييم لهذا المنبر الإعلامي أو ذاك.
الإعلام، كأي صناعة في العراق، تعرض لهزات عنيفة عصفت بأساساته. الأمر الذي وفر بيئة مناسبة للثقافة الشعبية إن تفرز أداتها الميديوية لتحل بديلا عن الإعلام الذي يعتمد الحرفية والمنهجية، ووفقا لرؤية غوستاف لوبون، الذي يرى ضرورة إجراء تحويلات على الأفكار الكبرى عندما يُراد تمريرها للمجتمع في مناخ مضبب بالوعي الشعبي، فلا مناص من استخدام الأمثلة والقياس، وهنا لا بد لي من أن أسوق مثلا عن أحزابنا الاسلاموية حيث راحت تغذي وجودها عبر استخدام "الميديا الشعبية" لمواجهة خصومها، من قبيل العمل على صناعة الإشاعة وإدامتها من خلال اجترارها وتكثيف تداولها، لتصبح معلومة راسخة في الذهن الشعبي، أو أن تصنع معلومة تشويهية للخصم والعمل على تمريرها وترسيخها في الوعي الجمعي، وهذا اللون من السلوك الميديوي التعبوي مارسته الأحزاب الاسلاموية طيلة فترة وجودها كسلطة متفردة بالحكم، وكثفت من استخدامه في مواسم الانتخابات، وتمكنت أيضا من توجيه شريحة واسعة من الجمهور وفقا لأجندتها، حتى وجدت المعلومة نفسها محمولة على أكتاف مناصري تلك الأحزاب يجولون بها بهدف التضليل، لا بل أن بعض التصورات التي صاغتها الأحزاب الإسلامية لا زالت راسخة عند مناصري وجماهير تلك الأحزاب.
إذا يمكن لنا القول إن رسالة الإعلام في العراق قد تضررت كثيرا بفعل صلابة وتكلس الوعي الشعبي الذي لا يعتمد على محاجات عقلية في تقييمه للخبر، إنما يتبنى أية رؤية تأتي له من الأعلى. كما أن حجم الخراب الهائل الذي وقع على متن المجتمع العراقي له دور كبير في عزوف الجماهير عن الإصغاء للإعلام الحر، وبسبب هذا التشابك اتسعت رقعة التشاؤم لدى عموم الناس. ذلك بسبب السطوة التي امتلكتها بعض القنوات الإعلامية التي خذلت مشروع التغيير كثيرا، فترانا نشاهد مالك هذه القناة أو تلك يوظف الأوجاع العامة لغايات شخصية، يقصد بذلك، الحضور في ذهن الجمهور.
وغالبا ما يؤدي هذا اللون من الإعلام إلى مجافاة الحيادية فتكون القناة أسيرة لهذا المؤثر أو ذاك. وعلى ضوء ذلك استطاعت الميديا الشعبية أن تتصلب وأن تبقى داعما قويا للوعي الشعبي الذي تعتاش عليه الأحزاب المتنفذة.