الصحافة السردية: سحر القصة
الصفحة الرئيسية > أخبار وملفات > الصحافة السردية: سحر القصة
عادت "الصحافة السردية" من جديد لتشغل الرأي العام العالمي، إذ تواجه اليوم تساؤلات عدة وانتقادات لمنهجها، بسبب تأثيرها الكبير على ردود أفعال الشارع الأميركي والأوروبي.
وقد يكون تأثير الصحافة السردية في بعض القضايا سلبياً، خاصة حين يتعلق الأمر بالمسائل القضائية أو السياسية، إذ أنها تطرح أحداثاً ترسم في مخيلة القاريء صورة يتفاعل معها، ويبني على اثرها أحكاماً استباقية، قبل صدورها قضائياً، فتأتي النتيجة معاكسة لتوقعاته، ما يخلق فجوة بين المجتمع المدني والمنظومة القانونية.
الأمر نفسه، حين يتعلق الأمر بتحديد شكل العلاقة بين المواطن وبقية مؤسسات الدولة، وفق توجهات صحافة السرد.
ما الصحافة السردية؟
السرد هو الطريقة التي يتم بها بناء قصة من خلال وجهة نظر معينة، وعبر سياق معين للأحداث.
أما تعاريف صحافة السرد فهي كثيرة ومتنوعة، البعض يفضل ارجاعها إلى الصحافة الأدبية، أو الإبداعية غير الخيالية.
واستعملت تلك الصحافة، ايضاً، مفهوم "السرد السياسي" في طرق عدة كاتخاذها، على سبيل المثال، مرادفاً لعبارة "الخطاب السياسي" أو أي قصة فردية قد تؤخذ على أنها "سرد سياسي"، كذلك الشهادات والأدلة، عن القمع والتعذيب من قبل الضحايا والجناة كما في "لجان تقصي الحقائق"، الروايات عن التصريحات السياسية، النصوص التحليلية لفهم النظام السياسي، او سرد معارك سياسية محددة.
تتضمن العناصر الحاسمة في الصحافة السردية مواصفات عدة، منها انها تحتوي على معلومات دقيقة ومدروسة جيدا، ومثيرة لاهتمام القاريء وتتطلع الى استقطاب فضول الناس، والعواطف البشرية، بالاضافة الى انها تهدف غالبا الى طرح قصة خاصة من وراء القصة العامة فضلا عن انها تبلغ مرحلة ما بعد المألوف، عن طريق مزج الريبورتاج مع اسلوب الكتابة الروائية.
بزوغ صحافة السرد
خلال العام 1960، استُشهد ببعض الأعمال، مثل "الدم البارد" لـ"ترومان كابوت"، و "نحو بيت لحم" لـ"التراخي جوان ديديون"، كأمثلة لـ"الصحافة الجديدة"، وكانت تلك الاعمال قصصاً حقيقيةً تُقرأ على شكل روايات، تتميز بالجمع بين مهمة الصحافي في تغطية احداث واقعية، مع فن السرد الخيالي.
لكن الكاتب الامريكي "جون سي هارتسوك" كان كشف في دراسة اجراها، ووثقها في كتابه "تاريخ الصحافة الأدبية الامريكية: نشوء نموذج السرد الحديث"، أن جذور هذا النموذج المميز للكتابة، يمكن ان تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، في العقود التي تلت الحرب الأهلية الأميركية.
وأشار "هارتسوك"، الى دعوة وجهها "لنكولن ستيفانس" رئيس تحرير احدى الصحف الأميركية، في عام 1890، طالبا من الروائي والمراسل "ابراهام كاهان"، الاطلاع على ملف جريمة قتل سيدة على يد زوجها، قائلا "هناك قصة في ذلك، الرجل احب المرأة الى حد يكفي ليتزوجها، ثم كرهها الى حد تقطيع جسدها، فقط اِبحث عن ما جرى في الفترة ما بين الزواج والقتل، واخرج برواية لك، وقصة قصيرة لي".
وحسب ما يرى "هارتسوك"، فإن رسالة ستيفانس الى كاهان، كانت احد العوامل التي حددت اصول الصحافة الامريكية الحديثة، والتي يطلق عليها اليوم "صحافة السرد".
وجادل هارتسوك في كتابه الاطراف الصحافية المعترضة على رأيه الداعم لصحافة السرد، مؤكدا ان الصحافة الادبية حققت اعترافا حاسما باعتبارها شكلا جديدا من الكتابة، فهي مختلفة ليس فقط في التغطية "الموضوعية" لكن أيضاً في اسلوب الإثارة، وانها قد واصلت تطوير ذاتها والمحافظة على حيويتها خلال القرن العشرين، رغم تهميشها من قبل المؤسسة الاكاديمية.
واطلقت مؤسسة نيمان للصحافة في جامعة هارفارد عام 2001 برنامج نيمان للسرد الصحافي، الذي كان يهدف الى توفير مركز لتدريس وتعليم ممارسة الصحافة السردية.
وتعرّف مؤسسة نيمان صحافة السرد على أنها أكثر من مجرد سرد للقصص، بل هي نوع معقد من طبقات وسياقات متعددة، عندما يطبَّق بشكل جيد، تصبح لديه القدرة على إصلاح الصحف وجعلها ضرورية ومقنعة.
سلاح ذو حدين
كانت نتائج دراسة قد نشرت في مجلة (Journalism & Mass Communication Quarterly)، وهي مجلة رائدة في تعليم الصحافة وثقافة التواصل مع الجمهور، تناولت مدى تفاعل المتلقي مع قوة اسلوب الطرح السردي، لقصص فئة من الشعب كالسجناء واللاجئين.
وبينت الدراسة ان لدى اسلوب السرد الاخباري قدرة عالية نسبيا، على التحكم بمشاعر المجتمع و تغيير سلوكه تجاه احد شخصيات او جوانب القصة، على الرغم من الافتقار إلى الجانب الاستقصائي للحصول على ادلة إضافية تؤكد صحة المعلومات.
وهذا يعني ان الصحافة السردية سلاح ذو حدين، فمن جانب تقود بعض الروايات الى التعاطف الذي يؤدي بدوره إلى تحسين التقييمات للضحايا على سبيل المثال، في مؤشرعلى الامكانات الكبيرة لهذه المؤسسة الإعلامية في تحسين وضع التناغم بين أطياف المجتمع.
لكن الباحثين لاحظوا أنه في بعض المناسبات تسبب الصحافة السردية المشكلات لبعض الافراد او الجهات نتيجة خلق ردود افعال سلبية، مبالغ بها احيانا، عند المتلقي وفقا لمدى انسجامه مع خط القصة.
حوادث حقيقية
استشهد "جيم كارثي"، الكاتب في صحيفة "ناشنال ريفيو اونلاين"، في مقال له ينتقد فيه دور الصحافة السردية في حادثة فيرغسون التي قُتل فيها مراهق اسود على يد شرطي امريكي، مبينا ان ما ظهر في وسائل الإعلام "صحافة السرد"، كان فيه اصرار على ان الحادثة جاءت بسبب عنصرية رجل الشرطة ضد المواطن الاسود الاعزل، بينما لم تقتنع هيئة المحلفين التي رأت ان الشرطي بريء من هذه التهمة، استنادا الى الادلة وشهادات الشهود الذين كانوا بالقرب من الحادث، ما سبب صدمة للجمهور، الذي لم يكن مستعدا لقرار هيئة المحلفين، لأنه يبدو مخالفا الى كل ما قيل عبر وسائل الاعلام السردية.
وهنا يتبين ان صحافة السرد تسبب احيانا ضررا للمتلقي، بتزويده بمعلومات خاطئة او غير كاملة، ما يكون لديه توقعات، ان لم تتحقق ستنتج ردود افعال متقلبة.
صحافة السرد في عصر الانترنت
بعد انتشار صحافة السرد على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، تسابق الجميع لضمان نقل المعلومات بسرعة أكبر، بغض النظر عن كونها متأتية من مصادر معتمدة، أو أنها مؤهلة للنشر تماماً.
وفي ظل هذا، فإن الميديا رزحت تحت وطأة مناخ من الضغط والتوتر، خاصة حين يشتد التنافس بين جبهات عدة في اسلوب نقل الخبر واقناع المتلقي بصحة معلوماتها.
وولد هذا التضارب في الأخبار من قبل صحافة السرد، "هستيريا" اجتماعية، جاءت بعد فقدان القدرة على التمييز بين الخبر الصحيح والكاذب، ويزداد ذلك مع التوارد السريع في الاخبار المتلاحقة، كانفجار هنا واحتلال أو انسحاب عسكري هناك، اخبار عدة متضاربة التفاصيل من مصادر عدة، سيفقد معها المتلقي القدرة على التركيز ومتابعة الأخبار حسب اهميتها او صحة مصدرها، لكثرة تشابك المعلومات والتصريحات، ما أدى إلى انخفاض مستوى المتابعة كنتيجة طبيعية لتحسس المتلقي من زخم المعلومات.
إن الهدف الأول من الاعلام هو ايصال المعلومة بصيغة بسيطة بعيدة عن الاثارة والحدة، لذا فإن على وسائل الإعلام ان تضع معاييرا محددة لصحافة السرد، توجه اسلوب التغطية، وعرض القضايا، وتقلل من القصص التي تخلق اجواءً من التوتر خاصة اذا كانت من مصادر ضعيفة، او تفتقر الى الادلة.