“بزيبز" إعلاميا: أبعد من جسر
الصفحة الرئيسية > أفكار > “بزيبز" إعلاميا: أبعد من جسر...
سجلت تغطية وسائل الاعلام العراقية، للأبعاد التي رسمتها مشاهد الهاربين من الرمادي على "جسر بزيبز" الذي شكل الممر الآمن الوحيد لوصولهم الى العاصمة العراقية، امتحانا آخر للمهنية الصحافية، ففي حين حضرت الاغطية والتبريرات تارة، والمعلومات المضللة تارة آخرى، تكون الحقيقة سقطت في نهر متدفق من الاكاذيب، بدا جارفا بقوة اكبر من النهر الحقيقي، اذ بدا الفرات حائرا مترددا، حيث البشر بين ضفيته، تفتك بهم الهواجس فالظنون والاتهامات.
وفيما بدت الدولة العراقية الحالية، وهي المعروف عنها اللين حد الفشل في اتخاذ ما يلزم من مواقف، حازمة في موقع لا يحتاج ذلك، حين كانت واضحة وقوية في قرار منع النازحين من الدخول الى بغداد دون ضمانات، منها وجود شخص "كفيل"، يتعهد بتحمل مسؤولية إدخال اي نازح الى العاصمة، انقسمت وسائل الاعلام مرة اخرى، فثمة من يرى في اجراءات الحكومة "امرا طبيعيا" ينطلق من "مخاوف جدية"، تعتمد احتمالا بتسلل عناصر من تنظيم "داعش" الارهابي تحت غطاء النزوح الى العاصمة من اجل تنفيذ اعتداءات جديدة، مثلما من وجد فيه "تقسيما للعراقيين بين مواطنين من درجة اولى واخرين من ثانية"، لينتقل الى "التفسير الطائفي" الاكثر وضوحا: "الحكومة الشيعية تهين المواطنين السنة وتعتمد سياسة منظمة في اذلالهم".
وبين رواية للحدث بدت "طائفية" وغير موضوعية بامتياز، وتتضمن هاجسا سائدا في الاوساط الشيعية: "السنة ارهابيون الى ان يثبتوا العكس"، كالتي تعنيها تغطية اعلامية عمادها ايجاد المبررات لمنع عشرات الالاف الهاربين من دخول بغداد، ورواية اخرى تنهل من المياه الطائفية المتوفرة حد الابتذال، وتصر على مسؤولية "الحكومة الشيعية"، ترددت، بالكاد، رواية اخرى تعتمد حجة منطقية بل حقا دستوريا واضحا لا لبس فيه: منع المواطنين من الانتقال بحرية داخل وطنهم، انتهاك لحق دستوري.
في الاولى: مبررات تجتهد في كل شيء من اجل التضليل، تضليل مشهد تسقط فيه الانسانية الى حضيض السياسة والطائفية، مشهد الالاف يواجهون حقيقة مرة: غير مرحب بهم في عاصمة بلادهم. وحتى ان كان هناك اعترافا بوجود ازمة انسانية، فان السبب فيه يكون الطرف الطائفي الاخر (السني)، والاكتفاء من الازمة بذلك التفسير، دون اثارة سؤال بسيط: ماذا نفعل عمليا لانهائها؟
وفي الثانية: تضليل تسقط فيه الحقيقة الى حضيض السياسة والطائفية، فالحكومة ليست "شيعية"، بل ان نائب رئيسها، سني، مسؤول اول عن اكبر هيئة لاغاثة النازحين الذين صاروا العنوان الاكبر لضحايا كارثة الموصل واخواتها، ناهيك عن وزراء عدة فيها هم من المنطقة ذاتها (الرمادي) التي نزح منها المواطنون، لكن هذا يغيب في الرواية الاعلامية المتحاملة طائفيا على "المخاوف الشيعية".
وما بين الاولى والثانية، يضيع المنطق والحق والمسائلة القانونية في الفكرة التي تعني ان "منع مواطني الرمادي من دخول بغداد، عمل غير دستوري وانتهاك فاضح لنص واضح يؤكد حق المواطنين بالانتقال والاقامة داخل وطنهم". وفي حين حضرت تلك الفكرة المنطقية، الا انها تبدو "ضعيفة"، فهي بالكاد جاءت في بيانات احزاب وقوى وشخصيات سياسية، وهذه لا صدقية لها حتى وان قالت الحقيقة، لفرط تضليل مارسته في مناسبات عدة، ولكثرة ما بثته مواقفها من احتقانات، وكرسته من انقسامات طائفية وعرقية.
وتشترك الروايتان لا في طعن الحقيقة، ورفع التضليل الى مستوى التقرير الصحافي، وحسب، انما في احتقار الجانب الانساني المتمثل في عذابات المتجمعين عند الضفتين، واعتماد الانتقائية في مقاربة المشهد الضاج بالاسئلة والخوف المتبادل: فمناصرو قرار منع النازحين من دخول بغداد، يركزون على صورة لعناصر الامن ممن يحتضنون طفلا او يساعدون مسنا او امرأة، ومناهضو ذلك القرار يركزون على مشاهد "اذلال" الهاربين عبر حملهم وثائقهم الرسمية وتصريح "الكفيل" وتصريحهم شبه الموحد: "اصبحنا غرباء في وطننا"، فضلا عن توابل تمثلها وقائع غير موثقة عن اعتداءات وصلت حد القتل، من قبل القوات الامنية على النازحين.
وما بين الطرفين اللذين احتقرا الحقيقة، لصالح التحريض على حساب الانسانية والالتزام بالجانب المهني الاعلامي قبل شيء، تضيع معالجات وقراءات هي ابنة المشهد ومن نتاجه الحقيقي، فلا متابعة جدية للجهد التطوعي الميداني الذي اجتهد ما امكنه من تقليل الصورة الوحشية لذلك المشهد، وتقديم العون الحقيقي للضحايا، ضمن قصص صحافية متوازنة، مثلما غابت بالطبع قراءات تاريخية للصراع الاهلي في العراق المعاصر، وكيف يذهب ذلك الصراع الى عمق القسوة بشكل مباشر: هل نسينا مثلا الحواجز التي اقامها نظام صدام حسين عند بغداد ايام الانتفاضة الغاضبة عليها بعد هزيمته في حرب تحرير الكويت 1991، ورفضه دخول ابناء المحافظات "المنتفضة"، لا بل اعتقال العديد منهم وتغييبهم الى الابد اعتمادا على الشكوك والمخاوف والظنون؟ هل طرحنا في سياق تغطيتنا الصحافية العراقية للحدث الراهن، سؤالنا مفاده: لماذا نكرر ما فعله من نصفه، وهو يستحق، باسوأ الاوصاف لجهة الظلم والقسوة والقتل المجاني وبدء العقاب الجماعي وفقا لهواجس طائفية؟
لا هذا ولا ذاك، فما فعلناه في وسائل الاعلام العراقية، الا في استثناءات نادرة، هو احتقار الحقيقة، احتقار الوجع الانساني لصالح الهوس الطائفي، الهوس الذي لا يجعل اعلامنا نقيضا للحقيقة وحسب، بل يجعله اقرب الى ان يكون مناهضا للقيم الانسانية.
*صحافي وكاتب