خالد مطلك : الكائن البغدادي الذي يستيقظ باكراً للحصول على جريدة ...اختفى
الصفحة الرئيسية > تجربة > خالد مطلك : الكائن البغدادي...
خالد مطلك، الصحافي الإشكالي والشاعر الأكثر إشكالية، يحظى اليوم بفرصة أن يكون شاهداً “حزيناً” على اختفاء الأشياء الجميلة من مكانه الأثير في العراق، وشاهداً “قنوعاً” إنه ليس بحاجة لتفسيرات مقولبة عما يجري سوى أن الأشياء تفقد جمالها تماماً.
إنه يرصد هذا الاختفاء مما يراه في الصحافة، وما تنتجه الثقافة في هذا البلد. إنه يقيس درجة مدنية المدن وبريقه الذي عرفه بهذين المؤشرين. قد يقول لك إنه لا يقرأ الصحف اليوم، وقد يدهشك إنه أخيراً أصد كتاباً عن “تاريخ مكثف من الإثارة” للحقائب النسائية، لكنه لا يزال يخرج من رأسه الصحافي الذي فيه، ولو بطريقته الخاصة، والتي تحاورنا معه لنمسك بها:
بعيد الحرب العراقية الإيرانية التحقت بجريدة الجمهورية وحققت حلمك في الانضمام لبلاط صاحبة الجلالة.. فمن أين جاء شغفك بالصحافة؟
في مراهقتي، كان احد أبناء الجيران يعمل في الصحافة، وكان شيئا عظيما وساحرا أن يظهر اسمه في الجريدة، كان شابا وسيما بنظارات طبية، شكل لي مثالا للشاب الذي قررت أن أكونه.
في واحدة من العطل الربيعية، أخذونا في منظمة الطلائع لنعسكر في مخيم صغير أقيم في ساحة المغرب، كان المعسكر مختلطا، ومن بين الشخصيات التي جيء بها لتقديم محاضرة لنا، كان الدكتور سنان سعيد رئيس قسم الإعلام في كلية الآداب، كنا انأ وزميلتي بروين قد إثرنا انتباهه في تلك الأمسية، قال لنا أمام الجميع أتمنى أن تلتحقا بقسم الإعلام عند تخرجكما من الثانوية، من هذه اللحظة صرت أقول لمن يسألني عن مستقبلي دون تردد: سأكون صحفيا.
جاءت حرب الخليج وذهبت بنا إلى مصائر أخرى، وعندما انتهت وجدت نفسي شاعرا، لكن الصحافة كانت في وجداني أهم من الشعر، كانت الصحافة عالما مليئا بالجمال، رغم كل شيء، كانت رحلة ممتعة، مبنى جريدة الجمهورية، وفي الشتاء تحديدا، يبقى واحدا من أكثر الأماكن سحرا على سطح هذا الكوكب. في الكافتيريا، قريبا من النافذة، حيث الإطلالة على جسر الصرافية، هناك تناولت أكثر افطاراتي لذة واشتهاء، الصحافة ليست مهنة كتابة المواد الصحفية، هي تحديدا ذلك الاختراع الذي قدمته البشرية لكي يعتقد الصحفي انه يساهم في صناعة العالم، دون أن يكون ملزما بالتأكد من تلك الفرضية.
كانت الرحلة ممتعة، بحلوها ومرها طبعا فالضد يظهر حسنه الضد، فمتى تذوقت حلاوتها لأول مرة، المناسبة، الحدث، السبق الذي جعلك تحمل جريدة الجمهورية في يدك وأنت تعتقد بأنك أنجزت شيئا مهما للقارئ، للعالم؟
أول ظهور لاسمي في الجمهورية، كان حدثا مهما، انتقلت فيه من الخاص إلى العام، لقد تحرر هذا الاسم من أوراقي الخاصة وأصبح عرضة لكل الاحتمالات، في البداية كان ظهور الاسم هو السبق، هو الإنجاز، لا يهم تحت أي موضوع كان، هذه هي حال كل البدايات، لقد حملت الجريدة معي طيلة ذاك اليوم، بمزاج جديد التقيت العالم ذلك الصباح . لقد فقدت عذرية وجودي رقما هامشيا في المجتمع، لقد أصبحت موجودا بشكل محسوس .
في ظل إعلام موجه كانت فيه السياسة والاقتصاد خارج نطاق أي اجتهاد بل حتى الثقافة لم تفلت من قيود وحدود التوجيه، ماذا بقي للصحفي ليعمله في تلك الفترة؟
بعد عام 1991، لم تعد الأمور كما كانت عليه قبل ذلك، حدث أن انفصل الإعلام إلى ممارستين، الأولى تخص الرئيس وحده، والثانية هي الهامش المتاح خارج هذه الدائرة، هناك صحافة فاعلة أخرى، تهتم بالمجتمع ومشكلاته، صحافة تمارس النقد ما دون شخص الرئيس ورمزياته، وهناك صحافة الأدب والفن تعمل على مسافة بعيدة نسبيا عن تلك الرمزيات، الأمر لا يخلو من مصاعب، لكنه سار بشكل مرض، لقد كانت الصحافة ( الثقافية ) تعيش حالة جيدة نسبيا، الأمور في المجمل سيئة بالطبع، ولكن الخطوط كانت واضحة بشكل جيد، الإنسان يستطيع باعتقادي، أن يوسع فردوسه الشخصي تحت أي نظام، مهما كانت قسوة هذا النظام، ولكنه في الفوضى يتحول إلى رأس مصاب بالصداع المزمن، انه لا يكف عن الدوران حول نفسه.
من هنا لا يمكن تقييم تلك الفترة من عدسات هذه الفترة المقعرة والمشوشة، حيث ليست هناك نقطة واحدة يمكننا الوقوف عندها وقراءة الماضي، كل شيء يتحرك تحت قدميك، و وتوازنك مختل ومرتبك، أنت في الآن في قلب المجهول تماماً. وحتى الحرية المتاحة نسبيا هي كارثة بمعنى من المعاني، حرية أن تتحدث بحرية مع نفسك هي نوع من حرية الوهم .
كانت الصحافة الثقافية جيدة إلى إي حد، وكيف تقيم مساهمتك فيها؟
نعم، كانت جيدة نسبيا، كانت مستقلة بشكل ما عن السياسة التحريرية للصحف، وقد أوكلت مهام إدارتها إلى مجموعة من الأدباء الشباب، من جانبي اعتقد أنني ساهمت بهذا القدر أو ذاك في زيادة جرعة الصحافة في الثقافة، بمعنى أنني حاولت أن اجعل من الصفحة التي أديرها - الصفحة الثقافية في الجمهورية - مكتوبة ومصممة طبقا لشروط الصحافة نفسها، بلغة تخص قارئ الجريدة اليومي، غير المتخصص في مجالات الأدب والفنون والخطاب الثقافي بشكل عام. هل نجحت في ذلك؟ اعتقد نعم، لقد كانت الاستجابة جيدة، بل جيدة جدا، إلى الحد الذي لم يعد مقبولا من قبل أصدقائي الحريصين على إبقاء الثقافة بعيدة عن خفة الصحافة ووداعتها.
واليوم أين تقف الصحافة الثقافية في العراق؟ هل أصبحت الصفحة الثقافية عبئا على الصحيفة على الأقل بسبب شحة المحررين المختصين؟
بصراحة لم أتابع الصحف الثقافية ما عدا جريدة المدى، والى حد ما، جريدة العالم.
تبذل المدى جهودا فائقة في إنجاح صفحاتها الثقافية، وهي صفحات جيدة لناحية دفاعها عن الذاكرة الثقافية، ولكن الظروف التي نعيش لا تسمح بشكل واضح في تأسيس تقاليد صحافة ثقافية، لان المجتمع وللأسف لم يعد معافى إلى حد إنتاج تقاليد ثقافية، المجتمع نفسه يفتقر بشكل كبير للتقاليد المدنية، وهو خليط هجين ومزعج مستغرق في العماء العشائري والطائفي. ناهيك عن غياب الظهير الفلسفي الذي يحمي منتوجاتنا الثقافية من السقوط في قاع التخلف والأمية.
الثقافة بمعنى من المعاني هي نتاج أفضل ما لدى الشعوب من معارف وقيم، ولأننا نعيش واحدة من دورات انحطاطنا كمجتمع فإننا غير قادرين على إنتاج ثقافة رفيعة، وبالتالي غير قادرين على إنتاج صحافة ثقافية، هناك محاولات جادة ورصينة ولكنها تصطدم بعدمية الواقع، الكلمة الآن ليست من حصة المثقف، الكلمة الآن من حصة المهرج في أشد مراحله عبثية.
وهذا يقودنا إلى السؤال هل الصحافة لصيقة بالمدينة؟ اهتممت بالمدينة في كتبك وقصائدك ومقالاتك.. هل صحافتنا تتبع المدينة في تقهقرها وهل علينا أن ننتظر نهوض المدينة لتنهض الصحافة؟
الصحافة اختراع مدني، من مبتكرات المدينة الحديثة، وهي من المبتكرات الكبرى في تاريخ هذا الكوكب، لقد جعلت الناس شركاء في المعلومات، وكانت واعتقد مازالت، مرتبطة بمدنية المجتمع، برغبته في الحصول على المعلومة، كما أنها وسيلة ثقافية أيضا، تساهم في توجيه عادات الناس وطرائق حياتهم.
أنا شخصيا ولدت في مدينة، بل في عاصمة وهذا معنى قيمي في منطقتنا في الأقل، ليس باستطاعتي رؤية الأشياء خارج محددات المدينة ونمط الحياة فيها، لم اكتب عن المدينة لأنها كانت معطى طبيعيا في حياتي، وعندما بدأت أعيش مرحلة أفولها المروع، صرت أكثر ميلا للحديث عنها، أكثر ما يخيفني في هذه الحياة، هو أن تتحول مدينتي إلى ذكرى، إلى مجموعة صور بالأسود والأبيض، الصحافة في العراق تكاد تختصر قصة الدولة العراقية، أو قصة بغداد بشكل أكثر دقة، فكلما كانت العاصمة تعيش نوعا من العافية المدنية، كانت الصحافة تعيش عافيتها الخاصة، باعتقادي ليس بالإمكان إنتاج صحافة بالمعنى الدقيق للكلمة بدون مدينة بالمعنى الدقيق للكلمة أيضا، لقد اختفى ذلك الكائن البغدادي الذي ينهض في السابعة صباحا للحصول على نسخته من جريدته المفضلة، لقد اختفى ذلك الكائن الجميل من حياتنا تماما.
وماذا عن صحافة المواطن؟ المدونون الفيسبوكيون الذي بات لبعضهم القدرة على التسبب بجلبة وسجال لا يمكن لأي وسيلة إعلام تقليدية أن توفر مثلها بينما تحول بعضهم الآخر إلى أساطير العالم الافتراضي.
شبكات التواصل الاجتماعي، على الأقل في منطقتنا، هي ضرب من جنون اللا تواصل، ضرب من اللا معنى، نوع من برج بابل، حيث الجميع يخاطب الجميع، في حفل جنون دائم، الناس هنا لا تتواصل اجتماعيا، الناس هنا يصنعون كرة من نايلون الأحداث المتسارعة ويدحرجونها أمامك، عليك أن تتجنب التعثر بها، أو القفز من فوقها، أنت لست حرا في التواصل، أنت محكوم بحدث يختاره سواك هذه اللحظة تحديدا، وعليك أن تكون جزء من اللعبة، ليس من حقك الحياد الديني والمذهبي، ليس من حقك أن تتجاهل اسم شخص مغمور جاءت به الصدفة إلى مسرح السياسة، عليك أن تمتدحه أو تشتمه، هذا هو قانون اللعبة . وبدون هذا القانون عليك أن تخرج من المسرح، أنت في العالم الخطأ، أنت هنا في صالة تعذيب مستمرة، إن شبكات التواصل الاجتماعي، أضحت أكثر الأمكنة شبها بمصحات الجنون، للحفاظ على الصحة الروحية، للحفاظ على بقايا الإنسان فيك، عليك أن تكون أكثر حذرا وخصوصية في التواصل مع الآخرين, أن تقطع أواصر علاقتك بالخرفان التي تتدحرج أمامك، وبالذئاب التي تتربص بك، والقرود التي تقلد نبرة صوتك، إنها غابة رديئة، غابة غير خاضعة حتى لشروط الغابة نفسها .
كل شيء متاح هنا، باستثناء مقولات العقل، العقل هو الشيء النشار في هذا المكان المريض.
برأيك هل تتحمل الصحافة والإعلام الرقمي التفاعلي، العربي والعراقي، المسؤولية الأكبر عن هذا العنف اللفظي الذي يسيطر على مواقع التواصل الاجتماعي؟
باعتقادي أن الموضوع لا يتعلق بالعراق، المنطقة كلها تعيش لوثة طائفية، هناك فكر عميق يستيقظ فجأة، ليكسر غلاف الطبقة المدنية الرقيقة التي توهمنا صلابتها، العراق محور هذا الاضطراب هذا صحيح، فهو الأرض الخصبة تاريخيا لإنتاج الفهومات البشرية للنص الديني، والأرض الخصبة في نفس الوقت لإنتاج الشحنات العاطفية غير المنضبطة، وهو محكوم الآن بأخر منتجين في العالم للتعصب الطائفي هما النسخة الوهابية ونسخة ولاية الفقيه، فهو يشتعل بنيران منجنيق الجيران التي ترمى من خلف الأسوار، ولديه مجموعة سياسية متخلفة ولا تفهم شيئا في إدارة الصراع فقد وضعتنا هذه المجموعة في فم الكارثة، مشكلتنا لم تعد سياسية، مشكلتنا بفضل غبائهم أصبحت هوس مرضي اضطرابي، الإعلام الرقمي مؤشر لكشف هذه الاختلالات الروحية، هو مسؤول عن ظهورها للسطح وليس مسؤولا عن وجودها، الإعلام الرقمي كما يحلو لك أن تسميه، هو كارثة بالنسبة الذين لم يصابوا بهذه اللوثة، عدا ذلك فهو مصحة كبيرة لا تقدم أي علاج سوى الحرية بالصراخ.. لا يمكنك أن تدخل مواقع التواصل الاجتماعي الآن دون أن تغلق أذنيك بيديك وتردد يا الهي إنني أصاب بالجنون أيضا.
متى تقرر التوقف عن متابعة الصحافة العراقية؟ أتوقعت في أسوأ فترات إحباطك كصحفي أن يكون المجتمع أشد قمعا للصحافة الحرة من السلطة.
كان تشومسكي يردد في التسعينيات: "لقد تخلصت من صداع التلفزيون"، الإعلام بمجمله أصبح نوعا من صداع العصر، وكما قلت لك سابقا إنني لا أتابع سوى جريدة أو اثنتين بشكل غير منتظم، ولكن ثمة أسماء في الصحافة، مواهب حقيقية، وبعضها مهم جدا تغريني بالمتابعة، للأسف هناك أسماء كان يمكن أن تكون في وضع أفضل كثيرا لولا التباس الظروف التي ولدت داخلها، لدينا أسماء تقدم مجهودا نادرا، ولكن لدينا أيضا مجتمع لا يفهم دور الصحافة، هل تتخيل أننا أول مجتمع في العالم يهاجم صحيفة ويتهدد محرريها لأسباب عشائرية، كما أننا أول مجتمع يضع عبوة ناسفة في باب صحيفة تعرضت لشخصية دينية تعمل في السياسة ومتورطة في ما يجري في بلدنا، ثم أن الصحافة وللأسف أصبحت عرضة الشبهات، حيث أصبحت مهنة من لا يجيد أي مهنة أخرى، وسط هذه الفوضى، يقدم صحفيون كبار تجارب لا يمكن إهمالها، أنا لست متفائلا بولادة صحافة من النوع الذي كنا نتمناه مع توفر شرط حرية الكتابة، لكني من جانب آخر سعيد بولادة أسماء استفادت من شرط الحرية هذا، هل مازال الوقت مبكرا لكي أقول لقد أضعنا كل شيء، أضعنا فرصتنا في أن نكون جزء من هذا العالم ؟ أتمنى أن يكون الجواب: لا، أتمنى.