عشر سنوات من التجريب
الصفحة الرئيسية > أفكار > عشر سنوات من التجريب
لنقل جدلاً، إن معادلات السياسة والأمن وتحولات الثقافة المركبة في العراق، وهي تؤرق الجمهور بشأن وجوده في هذا المكان المضطرب، أفضل ما حظيَّ به الصحافيون في هذه البقعة من العالم.
في العقد الأخير، كانت الصحافة العراقية في ورشة عمل كبيرة تضج بالتجريب والمغامرة والابتكار، مثلما وجدت نفسها تسقط وتتعثر على إيقاع المرحلة الانتقالية، بكل ما حملته من انكسارات وخيبات أمل كبيرة.
في هذا العقد، كان الصحافيون العراقيون يكسبون من الخبرة كما لم يفعلوا من قبل، تعرفوا أخيراً كيف يحترق المرء في غرفة أخبار تتلقى الجثث والحرائق والمفخخات، وحيل السياسة وألاعيب النخبة في حروف وكلمات.
تعرفوا، كما لم يتعرفوا من قبل، كيف للمرء أن يجلس أمام "الكيبودر" في غرفة صغيرة، يضرب مفاتيح رقمية صغيرة للتاريخ، يدون "الأوجاع والمسرات".
افترض، كذلك، أن بداية القصة مع صحافة ما بعد ٢٠٠٣، كانت ساذجة مشحونة بذلك العنفوان البدائي الذي فرضه الشعور بأنك "صحافي للمرة الأولى"، حتى وان كنت قد قضيت في المهنة سنوات قبل ذلك. وعليك اليوم، أن تقضي متعتك قدر ما استطعت، وأن تجرب الفنون الصحافية كما شئت، فيما تشرع أمامك فضاءات الأثير، ومكائن المطابع التي تدور كل مساء وهي تخبز الحروف من دون توقف.
كانت الصحافة، أول الأمر، بهذا القدر من البهجة والتفاؤل. بداية سعيدة، ومعرفة في طريقها إلى تكون أكثر ألماً وأشد وطأة، بالنسبة لصحافيين ولدوا للتو.
لكن هذا تزامن مع محاولات عراقية لصناعة مؤسسات سياسية بديلة، وديمقراطية تضاربت فيها مصالح قوى وحركات، وأمن مجتمعي يعرف طريقه سريعاً إلى التدهور والانكسار، وفي ذلك الوقت تغيرت الحياة "السعيدة" في غرف الأخبار، وانتفت الحاجة إلى صحافيين عفويين.
***
ضُرِبَ المرقدان العسكريان في سامراء. فتحت شوارع بغداد على جبهات دموية متعددة. غُسلت الشوارع بدماء على حدود الطوائف والجماعات. وانتقلت الحماية من الأخطار إلى جماعات دون الدولة، وفوق السلطة. وكان الصحافي أمام مشهد غير تقليدي، وعليه أن يصنع صحافة غير مألوفة.
لقد كانت سيرة مكتوبة بالقلق، الصحافيون يبيتون في غرف الأخبار، ويستعملون أسماء مستعارة، ويتنقلون بين الأزقة كما يفعل ثوار هاربون. في النهاية يعرفون إنهم يكافحون من أجل البقاء على تلك اللذة الأولى.
لقد كانت سيرة صحافية دموية لجميع أولئك الذين التقطوا صوراً لبلاد تغرق بحيوات مهدورة، وكتبوا عن دخان الرصاص، وضجيج الهتافات والمسيرات. كان مطبخهم الخبري يجمع هذا "الخام" من قصابة العراق الجديد.
***
سرعان ما دخل الصحافي العراقي "معمعة" التجارب السياسية، غطى الحملات الدعائية للقوى السياسية، وانتخاباتها، والتصويت على دستورها، وحفر عميقاً في معادلات تشكل المؤسسات، وانكسار تجاربها. كتب خائباً ومتأملاً رسوخ تقاليد سياسية محترفة، احتك مع مصادر معلومات تتغير معها بوصلة العراق وملامحه، وجرَّب كيف يمكن أن يتغلب على ناطقين ومتحدثين يضعون الحقائق في "الجيب الخلفي". تحول الصحافي أخيراً إلى شريك محترف في هذه الفوضى، يدفع لتنظيمها ويؤثر في إعادة صياغة تعريفاتها.
في هذا الوقت، كان الصحافيون يتأملون كيف يصنع الخبر. يختبرون ويجربون مانشيتات تبقى ٢٤ ساعة على صحفهم، وفي كواليس صناع قرار يقلبون خياراتهم معها، أو بوحي منها.
***
لقد تغيرت اللغة الصحافية. تطلب الأمر عشر سنوات لنحيل قاموس الإعلام الذي بقي حياً ثلاثة عقود إلى التقاعد. تطلب ذلك عشر سنوات من كسر السائد وتجريب ما لم يكن مألوفاً. والحال، أن المشهد العراقي لم يكن لائقاً إلا لقاموس صحافي أكثر حيوية وذكاءً وقدرة على تحمل كل هذا الاستقطاب والانعطافات الحادة.
مع القاموس الجديد، صار من الممكن القول إن الصحافي العراقي بات أكثر احتراماً للمتلقي، بعد أن تنازل عن تاريخ طويل من تسطيح الذاكرة ومحاولة جعلها ساذجة متصالحة على نحو مريب مع الواقع. وفي عشر سنوات، علينا أن نفخر بعناوين ومقالات واستقصاء صحافي متخاصم مع الواقع.
***
في المجمل، الصورة ليست بهذا القدر من الإنجاز. فمن ينطبق عليهم هذا التدوين لمسار الصحافة العراقية المكافحة أفراداً وليسوا مؤسسات. عشر سنوات انتهت من دون أن تحقق لنا منصة صحافية تحوي كل هذه الأحلام، وتعترف بأن صحافة تفكر خارج الصندوق هي من تصنع الفارق.
لكن، ثمة أفراد بصموا هوية مختلفة لصحافتنا العراقية، وربما يمكن القول، بطمأنينة وثقة، أنهم نواة تقاليد راسخة بعد عشر سنوات مقبلة.