قصة صحفية ننثرها في الخليج
الصفحة الرئيسية > أفكار > قصة صحفية ننثرها في الخليج...
كتب الصحافي ديفد راندل، في مؤلفه “مراسلون عظماء”، عن صاحب أفضل تقرير إخباري في العالم، أن الناس كانوا يحتشدون كل سنة حول تمثال حجري أحمر في شارع بمدينة “بيري كاونتي”، لقد كان للمراسل ماك غاهان.
ثمة تماثيل لهذا الصحافي في بلدات مختلفة بالقارة العجوز. يقول راندل، أنه ورغم ذلك، فإن طالباً واحداً فقط من كل عشرة آلاف يدرسون الصحافة لا يعرف من هو غاهان.
يعلل راندل مقولته عن “صاحب أفضل تقرير إخباري في العالم”، بأنه الأفضل ليس لجودة لغته أو جمال عرضه، وهو ما توفر فيه، لكنه ربما سيبقى الأفضل للتداعيات التي خلفها وتركها بين الناس، حين كشف النقاب عن جرائم إبادة جماعية إبان الحرب الفرانكو - بروسية.
لقد مر التقرير، مثل عين لامّة، على نحو ٣٠٠٠ جثة ورأس مفصول عن جسد مفقود، وقد استهله بهذا المطلع، “تجرعت حد التخمة أصنافاً من الرعب…”. قيل لاحقاً إن تقرير غاهان “نزل على البريطانيين كالصاعقة”.
مات هذا المراسل الحربي. أعلن الحداد في باريس ولندن وواشنطن. حمل جثمانه على سفينة حربية جالت المحيط الأطلسي قبل أن تضعه في نيويورك. أقيم القداس في كل مكان تقريباً في أوروبا. وقد كتب راندل في ذكّره لغاهان “إن كان لمهنة الصحافة، هذه المهنة النسّاية، ضمير فيجدر أن تخزها ذكرى هذا المراسل”.
ربما قصة هاغان، درامية للغاية بالمعنى الذي يؤطر ما وصلت إليه حياة البشرية اليوم، حتى تعقيدات الفهم الذي تكوّن لدينا عن الصحافي والصحافة، وعن مهنة نقل وإيصال المعلومات عموماً.
من دون شك، لن يأخذ أحدٌ جثةَ صحافي عراقي على قارب إلى شط العرب، ليُنثر في الخليج. ربما لا يعرف سائق تكسي في بغداد اسم الصحافي الذي كتب عن أزمة البنزين، التي لم ينته بها إلى معلومة.
الحياة العصرية، بكل تعقيداتها، لا تتحمل مشاهد من القرن الثامن عشر، أفضل عزاء حظي به صحافي عراقي في العقدين الأخيرين جاء عبر تغريدات في فيسبوك.
لا علاقة لهذه السطور بباخرة تنقل جثمان صحافي إلى نيويورك، ولا حتى بنوع الحداد والاستذكار الذي سيناله أي مجنون في هذه المهنة، بل أن هاغان وغيره في هذا العالم، يجعلنا نتذكر الآن أن لا قصة صحافية تعيش في وجدان العراقيين، بوصفها ضميرهم الحي.
لقد مرت الجثث، مواكب وأرتال وانتهت في مجالس لطم وعويل بين مقابر السنة والشيعة، وتقاطعت الطرق بعجلات القناصين والذباحين ورصاصهم يعلّم الشوارع بالأدلة والإشارات. لم نكتب بعد قصة تنفذ بجلدها من صحافي بعين واحدة.
لقد مر من هنا سياسيون فاسدون ومختلون بالمعنى الحرفي للاختلال، مجرمون وآميون وسماسرة سابقون ولاحقون. مر من هنا، أمام أعين الجميع، مقامرون رابحون دوماً، لأننا لم نكتب بعد قصتنا عن خسارات بقائمة مفتوحة.
لقد مر من هنا، صحافيون أجانب وعرب، مصورون من أوروبا وأفريقيا، منتجو آفلام من أسيا، شرقها وغربها. مر من هنا كتاب ومحللون وصناع رأي، ربما جاءوا من أقرب جار للعراق، وخرجوا بمصابيح من المعلومات، وقصص عن شعب لم يكتب بعد.