يوسف التميمي: شهرة الصحفي في العراق قد تكون قاتلة
الصفحة الرئيسية > تجربة > يوسف التميمي: شهرة الصحفي في...
يوسف التميمي، صحفي حر، عمل لسنوات كـ”مساعد باحث” في منظمة (هيومن رايتس ووتش، منظمة مراقبة حقوق الإنسان)، وكمستشار لدي مجموعة الأزمات الدولية منذ عام ٢٠١٠ حتى ٢٠١٤.
عمل التميمي مع صحيفة فاينانشل تايمز، مجلة ناشنول جيوغرافيك، مجلة الدي تزايت الألمانية، راديو الدنمارك، تلفزيون روسيا اليوم (إنكليزي) بالإضافة إلى عدد أخر من الوكالات.
آجري “بيت الإعلام العراقي” هذه المقابلة مع التميمي، لتسليط الضوء على تجربته:
متى فكرت في جعل الصحافة مهنة لك؟ كانت فرصة أم رغبة أم دراسة؟
لم أدرس الصحافة، لكني وقبل أن أخوض فيها، كنت ممن يستطيعون التحدث باللغة الإنكليزية بشكل جيد، مما ساعدني على أيجاد عمل كمترجم للصحفيين الأجانب العاملين في العراق في منتصف العقد الماضي. هي فرصة سعيت لاغتنامها والتتلمذ على يد الصحفيين الأجانب، والذين غالياً ما يكونوا من المحترفين في عملهم.
هل اخترت العمل صحفيا حرا، أم هي ظروف قدرت ذلك؟ وما مميزات وعيوب العمل كصحفي حر في بلد مثل العراق؟
علينا أن نعرف ما هو الصحفي الحر؟ هل هو الذي يعمل بلا عقد رسمي مع المؤسسة الإعلامية التي يرفدها بنتاج عمله، أم هو الذي يتصف بكونه حراً ومستقلاً عن ايدولوجيات تلك المؤسسات وأمزجتها.. لكل مؤسسة قوانينها الخاصة وجماهير معينة تستهدفها. بدوري سعيت جاهداً أن أبقى عاملاً ضمن النطاق الإعلامي الغربي (الأجنبي).
كان من الواضح أن العمل مع القنوات العراقية والعربية سيجبرني على الامتثال لتوجهها بالبحث عن معلومات استقصائية معينة يراد منها استهداف جهات معينة. العمل الإعلامي والصحفي الحر في العراق يخلق الكثير من الأعداء، فقد يتفق الجميع على استهدافك بشتى السبل، بالإعلام المضاد، تشويه السمعة، الاتهام بالعمالة، وأسوأهم بطبيعة الحال، الاستهداف الجسدي (التصفية الجسدية).
اقتصر عملك على وسائل الإعلام الأجنبية الناطقة بالإنجليزية، عن ماذا كنت تبحث، ظروف عمل أحسن؟ معايير مهنية أكثر رصانة؟
لا أنكر أن للدخل المادي أهمية لي على الصعيد الشخصي، كما السيارة تحتاج إلى الوقود لتستمر في العمل، لكن الدخل المادي لم يكن الهدف، كنت أؤمن أن كشف الحقيقة يساهم في إصلاح الضرر، وكنت أؤمن أن المهمة إنسانية قبل أن تكون مجرد مهنة، ولا زلت أعتقد ذلك نسبياً، لم أفكر في العمل مع وكالات إعلامية عربية أو محلية (عراقية) لأني لم المس فيهم عدالة الطرح، حتى وإن حاربوا الفساد، فأن الغاية ليست كشفه وإنما مهاجمة الفاسد وتسقيطه ليحل محله فاسد أخر من الحزب الذي يمول القناة.. إضافة لكل ذلك، كعراقيين مؤدلجين، العمل مع الوكالات الأجنبية ساهم كثيراً بتهذيب نفسي أنا الأخر والتخلص من عدم الحيادية التي يتمتع بها اغلب الصحفيين العراقيين والعراقيين بشكل عام. لم يكن المال هدفاً، إنما مجرد وقود للاستمرار، ملاحظة أني عملت كثيراً لصالح الصحفيين الأجانب (الغير متعاقدين مع مؤسسة) مجاناً وبلا مقابل، لا لشيء سوى للمساهمة المعنوية في تحقيق تقارير رصينة عن أوضاع العراق.
رغم إتقانك اللغة الإنجليزية هل واجهت عقبات ثقافية في صياغة المادة الصحفية والتعبير عن الأحداث وترجمة قصص الناس؟
نعم، ولا زلت أعاني، لكن بشكل اقل بكثير من ذي قبل، لغتي الإنكليزية مكتسبة، ولا زال أمامي الكثير من المصطلحات والمفردات التي يجب علي أن أعلمها وأتعلمها.. لاحظ معي أني لست صحفياً بالمعنى التقليدي، حيث أساهم غالباً في صناعة التقرير، وتوفير مواده المعلوماتية والمصادر والحقائق المطلوبة لإكماله.
كنت توفر المصادر وتجمع المعلومات ليأتي صحفي أجنبي ويستثمر جهدك ببضعة لمسات يضعها على الموضوع، ألم يساورك الشعور بالمرارة؟
نعم، أحيانا كنت أتحسر على عدم ذكر اسمي في بعض الحقائق التي ساهمت باكتشافها استقصائياً،، إلا أني كنت اشعر ببعض الفخر وأنا أقف خلف الكواليس واسمع تصفيق وثناء المهتمين بالشؤون التي نعرضها للرأي العام.. مع هذا، كلا، لم أطالب بإضافة أسمي أبدا، لعلمي أن الشهرة في العراق قاتلة، وكان من الضروري البقاء في الظل، لكي يستمر أدائي كما هو بدون أي تأثيرات أمنية أو ضغوطات من أي نوع كان.
ما هو أول انجاز حققته وأشعرك بأن الصحافة هي قدرك؟
لم يكن انجازا صحفياً، وإنما نتاج بحث استقصائي لصالح منظمة مراقبة حقوق الإنسان (الهيومن رايتس ووتش)، حصل ذلك في نيسان/ابريل 2010، عندما فاتحتني المنظمة للعمل معهم مؤقتاً لمدة شهر لتغطية أهم خروقات حقوق الإنسان في العراق بعد غيابها لسنوات طويلة جراء العنف الطائفي في 2005-2008. عملت مع وفد مكون من باحثين أثنين (كندي وفرنسي) وشرعنا بتغطية أهم ملفات حقوق الإنسان على مدى شهر (حقوق المرأة، الطفل، العنف الأسري، حقوق الأقليات القومية والدينية، حرية التعبير، حرية الصحافة، وحرية التجمع والتظاهر السلمي، إضافة لملف السجون ومعاملة السجناء). وقد توجنا عملنا الذي دام لشهر كامل، باكتشاف وتوثيق شهادات وإفادات 48 من المعتقلين السريين في سجن مطار المثنى السري، والذي أطلق عليه اسم (سجن سور نينوى). تمت اللقاءات بعد أن تمكنا كفريق عمل من مقابلاتهم في سجن الرصافة (التسفيرات). قامت المنظمة بإعلان نتائج بحثها وقد أثار تقريرها الصادر آنذاك ضجة في الأوساط العالمية والمحلية، وبالتالي، كان لزاماً على حكومة المالكي -على حد علمي- حسم ملفات المعتقلين بأسرع ما يمكن وإطلاق سراح الأبرياء منهم، وذلك لتتلافى الحكومة الحرج الذي سببه لها تقرير هيومن رايتس ووتش.
نعم، شككت مرات عدة في جدوى هذا العمل، على الرغم من الرضا الذاتي الذي حققته لنفسي، كان من الواضح أني قد أقحمت نفسي في لعبة الكبار، وأنا أصغرهم حجماً، العراق عبارة عن ساحة حرب أبطالها كل أنواع المافيات والمليشيات والجماعات المسلحة، عدم الانتماء لأحدهم، يعني أنك هدف الجميع.
كيف تمكنت من الدخول إلى المعتقل؟ وكيف كان شعورك في ذلك المكان خصوصا وأنك كنت المؤتمن على ترجمة أقوال الضحايا لمحققي المنظمة؟
مهمة الدخول إلى سجن التسفيرات ولقاء المعتقلين السريين الـ 400 كانت مهمة صعبة ومحفوفة بالمخاطر، أعترف أني استغليت الجهل الإداري وعقدة النقص عند البعض من المسؤولين في حضرة الباحثين الأجانب الذين كانوا في رفقتي لأحصل على الموافقة والدخول لمعاينة أوضاع السجناء، لا بل والحصول على ترخيص من مدير السجن لعمل لقاءات مع المعتقلين الذين كشفوا عن التعذيب الذي مورس عليهم، والتهديد باعتقال نسائهم واغتصابهن على مرأى منهم، كما واقر بعضهم بأنهم قد اغتصبوا على يد بعض العناصر التي تمارس التعذيب أثناء التحقيق بواسطة عصا الماسحة أو المكنسة، أو بإجبار المتهمين على ممارسة الجنس الفموي للحراس أو بين بعضهم البعض أثناء التحقيق،، إضافة لمزيد من أنواع التعذيب الأخرى.
في بداية الأمر، كنت أقوم بالترجمة، أحد الباحثين الأجانب كان يعرف من العربية بما يؤهله لعمل لقاءات بطيئة، مقابلة 48 معتقل من مجموع 400 كان سريعاً جداً، خوفاً من أن ينتبه الحراس إلى مغبة سماحهم لنا بعمل المقابلات،، كان لزاماً علينا أن نعجل بالتحقيق ونخرج من المكان بأسرع ما يمكن، ترجمت ما يمكن ترجمته، وقمت بدوري في سبيل الإسراع وتقليص الوقت بعمل المقابلات مباشرة، لترجمتها لاحقاً بعد انتهاء الزيارة ومغادرتنا للتسفيرات.
ما هي أخطر تجربة مررت بها، تجربة أوشكت أن تضيف اسمك إلى قائمة ضحايا الصحافة العراقية؟
كل التقارير الصادرة من هيومن رايتس ووتش منذ عام 2010 حتى تموز 2014، هي تقارير كنت قد ساهمت في صناعتها بطريقة مباشرة، حيث كنت الموظف العراقي الوحيد الذي يعمل رسمياً مع المنظمة التي تتخذ من نيويورك مقراً لها، كل هذا التقارير تتصف بالنقد وكشف الحقائق على مستوى عالمي واسع. كان من الضروري عدم الإشارة لأسمي عند نشر تلك التقارير، حيث أنها تنتقد أداء الحكومة العراقية في ملفات حقوق الإنسان العديدة، تدين الإرهاب، المليشيات والجماعات المسلحة، إضافة لانتقادات مباشرة للنظام القضائي العراقي غير المستقل والمتأثر بسطوة الأحزاب والحكومة العراقية.. كنت أرسل زوجتي وأطفالي إلى بيت عائلتها لتقضي بضعة أيام حتى ينتهي أو يتقلص تأثير التقارير التي ساهمت فيها والتي تصدرها هيومن رايتس ووتش، مخافة أن يتم استهداف منزلي في حال قررت أحدى تلك الجهات استهدافي، وذلك لأجنب زوجتي وأطفالي عاصفة الاستهداف إذا ما حصل في المنزل، فأكون فيه لوجدي لواجه مصيري، لا أنكر أني أحياناً، كنت أترك المنزل أنا أيضا، والحلول ضيفاً في منزل أحد الأصدقاء أو استئجار غرفة في احد الفنادق. معظم تلك التقارير التي صدرت على مدى أربعة سنوات، تؤدي إلى القتل.
في عملك كمساعد بحوث في منظمة هيومن رايتس ووتش، وضعت نفسك في مواجهة الجميع، السلطة ومعارضيها، المؤسسة الأمنية والجماعات المسلحة، فمن أين جاء اهتمامك بصحافة حقوق الإنسان؟
العمل مع هيومن رايتس ووتش عمل إنساني كبير، على الرغم من شتى الاتهامات المفبركة التي تطال المنظمة، إلا أن موظفيها يعملون بجهد للحفاظ على استقلالية المنظمة وحرفيتها، شغلها الشاغل يتلخص بتحقيق أقصى معايير احترام حقوق الإنسان. ولما كانت جميع الأطراف في العراق متورطة في خرق حقوق الإنسان، فمن الطبيعي أن تطاولها المنظمة بتقاريرها الدورية أو تلك التي تصدر بناءً على خرق كبير. لم أكن أفكر أبدا أني سأغادر العراق، قدمت على اللجوء في عام 2012، حيث أني وعلى مدى السنوات السابقة كعامل في الأعلام وناشط في حقوق الإنسان، كنت أتأمل أن ما أقوم به من عمل سيعود بالفائدة على البلد، وأن كل ذلك الجهد في تسليط الضوء على تلك الخروقات سيساهم في معالجتها أو التخفيف منها، حتى ينتقل العراق مع كونه غابة دموية، إلى مجتمع يحتذي حذو بقية المجتمعات المسالمة الأخرى في احترامه وتبنيه لثقافة حقوق الإنسان. بعد عام 2012، أيقنت أن المهمة أصعب من آمالي الوردية كإنسان أولاً وكمواطن عراقي ثانياً، فكان قرار الهجرة.
عملت كمستشار في منظمة الأزمات الدولية، ما طبيعة عمل هذه المنظمة وما كان المنوط بك فعله؟
العمل مع المنظمة ساهم كثيراً في تثقيفي سياسياً، لاسيما وقد وجدت نفسي باحثاً في السياسة العراقية من موقع المتفرج على رقعة الشطرنج، حيث بإمكانك الجلوس محايداً والبحث في حركة الأحجار الشطرنجية مع مقدرة إسداء النصح لكلا الفريقين لتحقيق السلام، ألا أن النصح لا يكفي للأسف، إن ما ينقص اللاعبين السياسيين العراقيين هي الرغبة معززة بالإرادة..عملي مع هذه المنظمة ساهم كثيراً في وضعي في البرلمان، وأتاح لي التعرف على الأحزاب العراقية من منظور أخر مختلف عن المنظور الإعلامي والصحفي، الصحفي عادة يبحث عن الخبر واستباق زملائه في إعلانه، العمل مع مجموعة الأزمات الدولية كان يتلخص بإيجاد أرضية مشتركة لجميع المتخاصمين السياسيين لكي يتمكنوا من بناء هرم الاتفاق صعوداً وفق المشتركات المتفق عليها، وكلما ارتفع البناء وفق تلك المشتركات، ذابت الخلافات تباعاً، لكن، هذا الأسلوب لا ينفع مع المصرين على الخلاف.. أنه يعمل مع فقط مع الباحثين عن السلام.
أثناء تغطيتك لمظاهرات شباط 2011 تعرضت للضرب على أيدي قوات الأمن وكسرت كاميرتك ، التعرض لهذا تجربة كيف اثر عليك؟
أنا أعتبر أن تلك المظاهرة كانت المظاهرة الأولى الشعبية الحقيقية التي خرجت ضد النظام الحاكم لأول مرة في تاريخ العراق، في زمن كنا نعتقد أن الحكومة العراقية لن تتجرأ على محاربتها بتلك الطريقة الشرسة، نعم، كنت أتوقع أن الحكومة ستقف ضدها، إلا أن صلافتها لم تكن بالحسبان أبداً. فشل العراق في التعامل مع أول مظاهرة عراقية في زمن تتغنى الحكومة فيها بالديمقراطية والحرية.
كنت أزاول عملي كبقية الزملاء بتصوير مشاهد المظاهرات التي شابها بعض العنف من قبل المتظاهرين الغاضبين، علقت على الجسر بين القوات الأمنية والمتظاهرين الذين كانوا يرشقون عناصر القوات الأمنية بالحجارة على أثر استفزازات المسؤولين الذين كانوا يقفون فوق البناية العالية المطلة على ساحة التظاهر، فكان لا بد أن اتجه نحو أحد الفريقين لأمن على نفسي من الحجارة، قررت أن أبقى قريباً من
عناصر الجيش، فإذا بهم يضايقوني على الرغم من حملي لباج الصحافة عالياً، حتى قام احدهم بضربي على يدي، لتقع الكاميرا، بينما قامت بقية العناصر بركلها بأقدامها ككرة القدم وأنا أحاول أن استردها من بين بساطيلهم العسكرية.. وما هي ألا لحظات، فإذا بالجميع يركلني ويضربني مع محاولة سحلي إلى خطوطهم الخلفية على الضفة الأخرى من الجسر في مسعى لاعتقالي.. في هذه الأثناء، شاهد زملائي الصحفيين الأجانب ما كان يجري علي، فهرعوا باتجاهي وشكلوا درعاً بشرياً لحمايتي من الضرب، وصرخوا وسط الجنود بأني معهم، فأن اعتقلتموه، فعليكم اعتقالنا نحن أيضاً.. قامت العناصر الأمنية التي لا ترغب بمشاحنة الصحفيين الأجانب بإطلاق سراحي.
أثرت تلك الحادثة بي كثيراً، فعلى الرغم من امتناني من الزملاء الذين وقفوا معي وساهموا بتخليصي من الاعتقال وشاركوني ما تلقيته ضربات غير المبررة، أقول على الرغم من كل ذلك، تساءلت، لما يتم ضربي في المقام الأول؟ ولماذا لم ينفع كلامي مع الجيش ليتركني في حال سبيلي واحترامي كعراقي أولاً وكصحفي ثانياً؟ ولماذا تطلب الأمر التدخل الأجنبي ليتم احترامي لاحقاً؟ إنها أسئلة أعرف أجابتها، لكن لا داعي لسردها.