إعلام "الأزمات" ورحلة البحث عن المهنية المفقودة
الصفحة الرئيسية > أخبار وملفات > إعلام "الأزمات" ورحلة البحث عن...
أضحى للإعلام والاتصال دور متزايد في عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية للأفراد، وتشكيل وعيهم في شتى المجالات الثقافية والاجتماعية والبيئية والسياسية لاسيما أننا نعيش في ذروة ثروة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال؛ إذ أصبح الآن بمقدور وسائل الاتصال الجماهيري Mass Communication كالتلفاز والإذاعة والصحافة الولوج إلى قاعدة عريضة من المواطنين بشكل قد يفوق إمكانية أية مؤسسة أخرى، بخلاف المؤسسة الإعلامية، على التواصل مع ذلك العدد الهائل من الأفراد في وقت واحد داخل حدود الدولة الواحدة أو ربما يتجاوزه ليصبح الاتصال عابراً للحدود والقوميات.
ويمكن تبيان عِظَمْ تأثير وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري فيما يتصل بالجانب المعرفي للمواطنين وتشكيل وعيهم في استعراض مقولة عالم الاجتماع “شارلز ميلز”، ومفادها أن جانباً ضئيلاً فقط من الحقائق الاجتماعية التي تتشكَّل في أذهاننا حول العالم قد توصَّلنا إليها بأنفسنا، بيْد أن الجانب الأكبر قد وصل إلينا عن طريق وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري.
وبتسليط الضوء على الوظائف الرئيسية للإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري، ارتأى عالم الاتصال “دينيس ماكويل” أن الإعلام والاتصال الجماهيري يخلقان حاجات ودوافع جديدة لم تكن موجودة من قبل لدى الفرد، وهذا يدفعه إلى اللجوء لوسائل الإعلام بغية إشباع تلك الحاجات والدوافع. ومن ثم فإن للإعلام والاتصال الجماهيري، وفقاً لـ “ماكويل”، وظائف أربع أساسية تتمثل فيما يلي:
أولاً: الوظيفة الإعلامية، فوسائل الإعلام والاتصال الجماهيري تخلق لدى الفرد الحاجة إلى معرفة ما يدور حوله من أحداث في المجتمع المحيط، وكذا في العالم الخارجي ومن ثم يلجأ الفرد إلى وسائل الإعلام لإشباع وتلبية تلك الحاجة من خلال تزويده بالمعلومات والمعرفة التي يحتاجها.
ثانياً: تحديد الهوية، إذ تخلق وسائل الإعلام لدى الفرد الحاجة إلى دعم القيم الشخصية التي يحملها؛ ولذا يلجأ الفرد إلى وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري لإشباع تلك الحاجة ومن هنا يكمن دور وسائل الإعلام في عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية للفرد، وبلورة القيم التي يحملها ومن ثم التوجهات والآراء التي سيتبناها اتساقاً مع ما يحمله من قيم ومعتقدات.
ثالثاً: التفاعل الاجتماعي، فوسائل الإعلام والاتصال تخلق لدى الفرد دافعاً للاتصال مع الآخرين، والاحتكاك بأفراد المجتمع مستغلةً الطبيعة الإنسانية التي تجنح إلى الاجتماع والتواصل والحوار، ومن ثم يكون من المفترض أن تخلق وسائل الإعلام قنوات للاتصال بين مختلف فئات وأطياف المجتمع، وتبني جسوراً للتعاون والمشاركة بين أفراد المجتمع.
رابعاً: الترفيه، يتمثل في رغبة الفرد في الهروب من الواقع ومشكلاته Escapism، وبالتالي يلجأ الفرد إلى وسائل الإعلام التي توفِّر له وسائل للتسلية والترفية والراحة وشغل وقت الفراغ.
ومن خلال استعراض الوظائف الأساسية لوسائل الإعلام والاتصال الجماهيري عند “ماكويل”، يتراءى لنا أخطر تلك الوظائف وأكثرها تأثيراً على الفرد ألا وهي تحديد الهوية؛ فوسائل الإعلام، كما سبق وأشرنا، تلعب دوراً كبيراً في تشكيل القيم التي يحملها الفرد، التي تسهم بدورها في بلورة توجهاته وصياغة آرائه، ولذا كان لزاماً الإشارة إلى دور الإعلام والاتصال في تشكيل ما يُسمى بـ “الصورة الذهنية”.
إن مصطلح “الصورة الذهنية” أو Stereotype ظهر لأول مرة في أوائل الألفية البائدة على يد “والتر لييبمان”، الذي كان عميداً للصحفيين الأمريكيين آنذاك وأكبر محللي السياسة الخارجية الأمريكية، وأحد أهم المنظِّرين الليبراليين والمساهمين في الحملات الدعائية الحكومية، ويشير هذا المصطلح إلى التأثير الذي تُحْدثه وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري في ذهن المتلقِّي ما يدفعه إلى تكوين صورة ذهنية معينة حول قضية ما ومن ثم يتبنى آراء وتوجهات بصدد تلك القضية انطلاقاً من تلك الصورة الذهنية، وقد خدم هذا المفهوم نظرية “لييبمان” حول “الثورة في فن الديمقراطية”، إذ أوضح “لييبمان” كيف يمكن لوسائل الإعلام الأمريكية استغلال سطوتها على ذهن المتلقي عن طريق بث رسائل معينة وتكرار تلك الرسائل بما يُفضي إلى تشكيل صور ذهنية معينة تمهِّد السبيل لخلق ما يُسمى بـ “الإجماع العام” أو “العقل الجمعي” لجعل الرأي العام الأمريكي يؤيد قضايا وتوجهات ما كان ليتبناها لولا تأثير وسائل الإعلام، وتلك القضايا والتوجهات، وفقاً لـ “لييبمان”، تتسق في الأغلب الأعم لتوجهات النخبة الحاكمة القادرة على إدارة شئون الدولة وحمايتها من “القصور” الذي تتسم به رؤية وإدراك العامة لطبائع الأشياء ومجريات الأمور.
أسطورة الإعلام الأمريكي:
يظل الإعلام الأمريكي ووسائل الاتصال الجماهيري، شئنا أم أبينا، اتفقنا أم لم نتفق، مضرب الأمثال في التأثير على الرأي العام وتوجيهه، فبإطلالة على إسهام المفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي” حول “سطوة الإعلام… الإنجازات الهائلة للبروباجندا”، نجد أن “تشومسكي” سلَّط الضوء على صناعة العلاقات العامة الأمريكية، وكيف استخدمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة الحملات الدعائية ووسائل الإعلام لجعل الرأي العام يتبنى توجهات ما كان ليتبناها لولا وُظِّفت وسائل الإعلام لخدمة أجندة الحملات الدعائية. تلك الأسطورة الإعلامية لم تُخْلق من فراغ، إذ يُنْفَق عليها بلايين الدولارات سنوياً لضمان جودة تلك الصناعة، وقد نجحت العلاقات العامة الأمريكية وكذا الإعلام الأمريكي في حفز الرأي العام لتأييد المغامرات الخارجية لنخبه الحاكمة، فإذا بنا نلاحظ التحوُّل الجذري في موقف المواطنين الأمريكيين إزاء خوض غمار الحرب العالمية الأولى من السلب إلى الإيجاب أي من الرفض التام للتدخل الأمريكي إلى جانب الحلفاء إلى تأييده بنهاية المطاف بدعوى إنقاذ أوروبا من المذابح التي يرتكبها الألمان، وذلك الأمر قد تكرَّر ثانيةً فيما يتعلق بـ “الذعر الأحمر” أي إثارة الرعب من الأيديولوجية الشيوعية.
لم يتوقف الأمر عند توظيف وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري لتأييد سياسات النخبة على المستوى الخارجي فحسب، بل تجاوزه إلى استغلال سطوة الإعلام على الرأي العام الأمريكي لتأييد سياسات النخبة الحاكمة في الداخل، منها على سبيل المثال، تأييد زيادة الإنفاقات العسكرية في مقابل خفض الدعم الموجَّه للرعاية الاجتماعية، وكذا الإنفاقات على قطاعات الصحة والتعليم في عهد “دونالد ريجان”.
دائماً ما ينجح الإعلام الأمريكي، إذا اتسقت توجهاته والإدارة الأمريكية، في خلق صورة ذهنية معينة لدى الرأي العام في سبيل تحقيق “إجماع عام” حول قضية معينة؛ فمثلاً نجح الإعلام الأمريكي بالتواطؤ مع إدارة بوش الإبن في تصوير “صدام حسين” وكأنه “هتلر الجديد” القادم لتدمير العالم، ومن ثم استثارة الحس الوطني لدى المواطن الأمريكي من خلال رفع شعار “أيِّدوا قواتنا” لتبرير الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. إذاً الإعلام الأمريكي لم ينجح فقط في تبرير الغزو أمام المواطن الأمريكي بل نجح أيضاً في تجنيد الرأي العام وحشده لتشجيع الجيش الأمريكي على غزو العراق والإطاحة بـ “هتلر الجديد” إنقاذاً للبشرية.
إن تأثير الإعلام الأمريكي لم يتوقف قط على المستوى القومي بل تجاوز ذلك إلى الدول الأخرى خاصة الدول الغربية؛ إذ تمكَّن من تكوين صورة ذهنية مجحفة حول الإسلام كدين والمسلمين كبشر بما يخدم الأجندة الأمريكية، وخصوصاً في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001؛ إذ دأبت وسائل الإعلام على تصوير المسلمين بالإرهابيين لحشد الرأي العام ضد المسلمين، وكسب تأييده في غزو أفغانستان عام 2001، ثم غزو العراق 2003 بدعوى “الحرب العالمية ضد الإرهاب” ما أفضى إلى بزوغ ظاهرة “الإسلاموفوبيا” وتصاعد حدة العداء ضد كل ما يمت للإسلام بصلة، واضطهاد الجاليات المسلمة بالمجتمعات الغربية.
ورغم زعم البعض أن الإعلام الأمريكي في المرحلة الراهنة يشهد تراجعاً لأسطورته، واستشهدوا على ذلك بإخفاق الإعلام في الانتخابات الأمريكية السابقة وخروجه، لأول مرة، عن مهنيته وحياده إزاء المرشحيْن المتنافسين على الرئاسة وهما “دونالد ترامب” وغريمته “هيلاري كلينتون” ما رسَّخ الاعتقاد بفوز “كلينتون”، على عكس ما جاءت به نتيجة الانتخابات في نهاية الأمر، التي شكَّلت صدمةً قويةً لدى متابعي وسائل الإعلام الأمريكية، إلا أنه لم يزل إعلاماً قوياً تخوض بعض مناصته سجالاً قوياً أمام الرئيس الحالي للولايات المتحدة في حين أن البعض الآخر تحتفي بـ “ترامب” وإنجازاته كما ترتئيها، ولازالت المنصات الإعلامية المعارضة لـ “ترامب” كشبكة CNN تحظى بمصداقية الشعب الأمريكي بحسب استطلاع للرأي أجرته شركة “سيرفاي مانكي”، وهي واحدة من أشهر شركات استطلاع الرأي عن طريق الإنترنت والتطبيقات الرقمية، بحسب ما نشرته بي بي سي عربي في 5 يوليو/ تموز الجاري، يُظهر أن 50% يثقون في CNN مقابل 43% لترامب بصفة عامة، وأن 55% لصالح CNN مقابل 40% لترامب من المستقلين غير المنتمين للحزبين الديمقراطي والجمهوري، وقد أُجري ذلك الاستطلاع على 4.965 مواطناً أمريكياً فوق سن الـ 18 في الفترة بين 29 يونيو/ حزيران الماضي إلى 3 يوليو/ تموز الجاري.
وفي ظل ذلك الزخم الإعلامي الأمريكي، ثمة درس جدير بالتعلم مفاده أنه مهما اختلفت الآراء حول أداء النظام الحاكم وفاعلية سياساته، يظل هناك توافقاً وإجماعاً عاماً حول إعلاء مصلحة الوطن العليا، وذلك الأمر نراه بشكل جلي حينما تحشد الإدارات الأمريكية مواطنيها بدعوى “مصلحة الوطن” أو “الأمن القومي الأمريكي”.
*مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية