حسن الفرطوسي: الإعلام العراقي محاصر بالعنف والإرهاب الديني
الصفحة الرئيسية > تجربة > حسن الفرطوسي: الإعلام العراقي محاصر...
روائي وصحافي عراقي يعيش في استراليا منذ العام ١٩٩٥ وانتقل إلى الكويت في العام ٢٠٠٧. صدرت له رواية “سيد القوارير” عن الدار العربية للعلوم في العام ٢٠٠٩”، ورواية “عشبة الملائكة عن دار الفارابي في العام ٢٠١١.
عمل في الصحافة الكويتية بدءاً من جريدة الرأي، مرورا بجريدة القبس وانتهاء بجريدة الكويتية التي ترأس فيها قسم الشؤون الدولية منذ تأسيسها في العام ٢٠١١.
لديه عمود صحفي تحت عنوان “عالبارد".
عمل في إعداد تقارير إخبارية لصالح صحيفة الديلي ميل وصحيفة الصن البريطانيتين. التقى بيت الإعلام العراقي بالصحفي حسن الفرطوسي للحديث عن تجربته وهذه التفاصيل:
هل كانت لك سوابق بالعمل الصحفي قبل مرحلة اللجوء في رفحاء؟
لا، ليس لدي أي تجربة صحافية قبل خروجي من العراق في العام ١٩٩١، كنت حينها أؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية قبل الالتحاق بالانتفاضة، والخروج بعدها باتجاه السعودية لأمضي خمسة أعوام بين مخيمي الإرطاوية ورفحاء.. هناك، خلال الأشهر الأولى أصدرنا جريدة الانتفاضة، بمشاركة كل من حسين علي الربيعي (الزورائي) ومحمود ألساعدي وعلاء هادي وعبد الواحد الحياوي وأنا، كانت الجريدة تكتب بالكامل بخط اليد، حتى الصور التعبيرية والبورتريهات كان يرسمها الفنان محمود ألساعدي، ساندها ورفدها بالمواد الصحافية والمقالات الكثير من الأدباء والكتاب المتواجدين في المخيم.. كانت تجربة مجنونة، لا أستطيع أن أتخيل الآن إننا فعلا قمنا بذلك ونحن في كامل قوانا العقلية، تخيل معي، بشر مرميون في عمق الصحراء، هاربون من وطنهم الأخضر، لا يعلمون أي شيء عن مصيرهم.. سنوات من العيش في العراء، الصورة الأقرب التي ذكرتني بذلك التيه المشحون بالترقب، منظر نازحي جبل سنجار، بعد احتلال الموصل من قبل تنظيم داعش، تخيل، أن تعيش في مثل هذا المشهد وتفكر في إصدار جريدة، وتنفذ الفكرة، ساعدنا الصليب الأحمر في استخدام جهاز الاستنساخ لعمل مئة نسخة، توزع على مجاميع اللاجئين مع سيارة نقل المواد الغذائية.. التجربة لا تخلو من الفانطازيا بالتأكيد، لكن الإنسان ابن الحالة وسلوكه محكوم بتفاصيلها
عن ماذا كنتم تكتبون، وهل واجهتم مشاكل مع حرية التعبير خصوصا وأن ال ٥٠ لاجئا ''كنتم 50 ألفا؟'' كانوا من مشارب شتى، إسلاميين وشيوعيين و و و، إضافة إلى صراعات المحتجزين المعروفة، اعتراضات؟ سجالات؟ كفلتم حق الرد؟
في بداية نشوء المخيم كان الكل يمارس حريته ويعبر عن آرائه بلا تحفظ، لكن مع مرور الأيام والسنوات بدأت مساحة حرية التعبير تضيق تدريجيا، مع تزايد نفوذ الأحزاب الإسلامية، حيث أفرز ذلك النفوذ سلوكيات عنيفة في الغالب مارسها أتباعها.. جريدة الانتفاضة وكما هو حال الصحف التي صدرت بعدها، تنشر كل الآراء ومع أن توجه الجريدة ديمقراطي علماني، إلا أن الإسلاميين ينشرون مقالاتهم على صفحاتها أكثر من العلمانيين.. أما فيما يتعلق بنوعية الكتابات، فبعضها بسيط، لا يتعدى مديح الشخصيات التاريخية، وبعضها عميق يحاكي الواقع السياسي والتحركات الدولية، قد لا يتوقع أحد أن جريدة في الصحراء مكتوبة بخط اليد يكون أحد عناوينها الرئيسية (القرن الواحد والعشرون.. قرن التوازن الروحي) مثلا!
بعد أربعة سنوات من العيش في الصحراء انتقلت إلى استراليا مع تجربة صحفية غاية في الفنطازية فأين ومتى عاودت العمل الصحفي؟
لم أمارس العمل الصحافي كمهنة أساسية إلا في العام ٢٠٠٣ خلال وبعد دخول قوات التحالف إلى العراق، حيث عملت مع صحيفة (هيرالد صن) الاسترالية ضمن فريق عمل صغير في العراق، قبلها كنت انشر مقالاتي السياسية والثقافية في الصحف العربية، في المهجر، مثل صحيفة التلغراف وصحيفة النهار ولاحقا صحيفة الفرات.. وفي العام ٢٠٠٧ قدمت من أستراليا إلى الكويت للعمل في جريدة الراي (الرأي العام سابقا) حتى العام ٢٠١٠ حيث انتقلت للعمل في جريدة القبس لفترة وجيزة، وتبعها في العام ٢٠١١ إقامة جريدة الكويتية التي ساهمت في تأسيسها، وبقيت فيها رئيسا لقسم الشؤون الدولية حتى مطلع هذا العام، ٢٠١٥، ولي فيها زاوية أسبوعية تحت عنوان (عالبارد).. كما عملت لفترات متفاوتة في إعداد قصص صحافية وملفات استقصائية لصالح صحيفة الديلي ميل البريطانية، كان آخرها ملف محمد موازي، البريطاني الجنسية المولود في الكويت، والمعروف بذباح داعش، وأستطيع القول بأن أكثر من خمسين بالمائة من المعلومات التي تداولتها وكالات الأنباء العالمية والعربية بشأن محمد موازي خرجت من هاتفي المحمول.
عملك في الصحيفة الاسترالية كيف تم؟ صدفة؟ معارف؟ وكيف كان دخولك الأول للعراق بعد فراق 12 عاما.؟ وبماذا شعرت؟
كانت الصحافة الاسترالية خلال أحداث التاسع من نيسان 2003 وما بعدها مهتمة جداً بالشأن العراقي، لكن صعوبة حركة موفديها الصحافيين في العراق، بسبب استهدافهم من قبل التنظيمات الإرهابية، جعلها تبحث عن العنصر الإعلامي المحلي لتسهيل عملية الحصول على المعلومة، لذلك اعتمدت معظم وسائل الإعلام العالمية على صحفيين عراقيين، سواء من الداخل أو الخارج، فكان عملي في صحيفة الـ"هيرالد صن" نتيجة لتلك الظروف.. كان دخولي الأول إلى العراق عن طريق ميناء أبو فلوس في البصرة، على متن سفينة اسمها "فاي" قادمة من إمارة الشارقة، جميع ركابها تقريباً من المغتربين العائدين، لم يكن هناك منفذ حدودي، كانت الصدمة الأولى هي إننا دخلنا بدون تأشيرة دخول.. بقيت هناك بضعة أشهر تلاحقني الدهشات بشكل متواصل، انتهت بقناعة متشائمة جداً تفيد بأن مساحات الخراب ستتسع بشكل مرعب، من بين ما رسخ تلك القناعة مشهد لرجال دين مسلحين يدخلون مدرسة ابتدائية في البصرة يعلمون التلاميذ على اللطم.
صف لي ما رأيته بعين الصحافي، هل شهدت فتح مقبرة جماعية مثلا، مقبرة كان ممكن أن يكون حسن الفرطوسي أحد ضحاياها؟ تفاجئت بحجم الخراب الذي خلفته 12 عاما من الحصار ؟
كان الغبار يعلو كل شيء، وجوه الناس شاحبة، كأي شعب يتحول في كل مرة إلى هدف حربي، إذا لم تبتلعك المقابر الجماعية، تحرقك حمم التورنادو والاباتشي.. رغم كل ذلك كان واضحا رغبة العراقيين بترميم ما تهدم من حياتهم، كان هناك نية حقيقية للوقوف مجددا، بعد كل الخراب الذي حل بالبلد، تلك الرغبة لم تعد موجودة اليوم، العراقيون في ٢٠٠٣ كانوا أكثر عراقية وأكثر تمسكا في بناء دولة من ٢٠١٥، كان حديث الشارع يدور حول دولة حديثة، نموذج الإمارات العربية حاضرا في أحاديث الناس.. بعد تنامي نفوذ الأحزاب والمليشيات والتنظيمات الدينية تلاشى كل ذلك، صار هاجس الموت حاضرا أكثر من هاجس الحياة.
خلال تلك الزيارة شهدت فتح مقبرة جماعية في منطقة الحفار القريبة من مدينة الديوانية، كان لي فيها ابن خالي وصديقي الشهيد حسين فرهود، آخر لقاء جمعنا خلال انتفاضة ٩١، في معركة الحفار، مكان المقبرة ذاته.
ما قصة انتقالك للعمل للكويت وهل ترددت أو تحسبت لردة فعل الكويتيين بهاجس الغزو؟
تجربة العيش والعمل في الكويت فقد جاءت بلا مقدمات طويلة، لم يكن يخطر على بالي يوماً أن أعيش في أي دولة خليجية، قبل أن تعرض عليّ فكرة العمل في جريدة الراي (الرأي العام سابقاً) وخلال أقل من شهر واحد حتى تحولت إلى حقيبتين وتذكرة سفر، متوجها من أستراليا إلى الكويت.. في الكويت لم أشعر بالغربة على الإطلاق، وجدتني بين إسماعيل فهد إسماعيل وعقيل عيدان وميس العثمان وصبيح السلطان وأفراح الهندال وإستبرق أحمد وسامي ألقريني ومحمد النبهان وإقبال العثيمين ودخيل الخليفة وفهد الهندال وسعداء الدعاس وعلاء الجابر وليلى أحمد وعبد الله الفلاح وإبراهيم الهندال وسعد جوير وحلا الدعاس ومحمد سالم وعشرات آخرين من الأدباء الكويتيين الذين رأيت الكويت من خلالهم.
كيف استقبلك الوسط الصحافي الكويتي وكيف وجدت تعامل عامة الكويتيين مع العراقي خصوصا عام 2007 الذي شهد ذروة رجع صدى الاقتتال الطائفي في محيط العراق العربي؟
الوسط الإعلامي الكويتي عموماً يتسم بالاحترام والوئام. هو خليط من جنسيات عديدة، عربية وغير عربية، بالإضافة إلى الكوادر المحلية طبعاً.. واسمح لي أن أشير إلى أن طبيعة الإعلام الكويتي نابعة من طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فهو ينتمي إلى القطاع الخاص، كما هو حال أي بلد رأسمالي يتبنى نظريات الاقتصاد المفتوح، أي إنه يختلف تماماً عن الإعلام في النظم الاشتراكية الذي في الغالب يكون حكومياً أو حزبياً.
أما فيما يتعلق بردود فعل الشعب الكويتي على ما يحصل في المنطقة من صراع واقتتال، فهو متفاعل بحسّ مدني عقلاني إلى حدّ كبير، عدا بعض الأصوات المعروفة بخطاب الكراهية.. وأودّ أن أشير أيضاً إلى إني وعلى مدى تسع سنوات، فترة إقامتي وعملي في الكويت، لم ألتق أي كويتي لا يحب العراق، على الرغم من أزمة الغزو "ألصدامي" كما تطلق عليه معظم وسائل الإعلام الكويتية. وقد يكون الغناء العراقي هو اللغة الحميمية الوحيد التي بقيت متماسكة بين الشعبين، إنهم شغوفون بالغناء العراقي بطريقة عجيبة، حتى حينما فاز الفريق الكويتي لكرة القدم على فريقنا، احتفلوا بالفوز على أنغام الأغاني العراقية.
من مستقرك الكويتي كيف رأيت أثر الإعلام العربي على الحالة العراقية وحصر العراقيين بين حجري الاحتلال والمقاومة وتجاهل كل ما قبلهما وما بينهما من مآسي؟
أي قضية معقدة مثل الحالة العراقية ستواجه حتماً رؤى إعلامية متعددة ومتضادة ومعادية في بعض الأحيان حدّ استخدام خطاب الكراهية المعلن، دون الالتفات إلى المعايير المهنية، لأن هناك شرائح مجتمعية واسعة تستلذ بهذا الخطاب وتطرب إليه.. المجتمعات العربية والإسلامية (وإعلامها) في حالة اصطدام بثقافاتها بفعل التغيير الذي تغذيه ثورة التكنولوجيا الرقمية والتي جعلت من أي مواطن وسيلة إعلامية متنقلة، لكنها تكشف اضطرابه الثقافي، خذ مثلاً، أن المواطن العربي يشعر بالفخر وهو ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي تسجيل فيديو لامرأة فلسطينية تتهجم بـ"مكنسة" على جنود إسرائيليين، مسلحين بالطبع، فينسحبون دون أن يردّوا عليها.. المواطن العربي يروّج إعلامياً لهذا التسجيل على الرغم من أنه يصب في مصلحة إسرائيل.. إنه يريد أن يروّج لبطولة المرأة الفلسطينية، ولكنه، بلا قصد، يلمّع صورة الجندي الإسرائيلي ويظهره ملتزماً بحقوق الإنسان، وهو ما ليس فيه.. وبالطريقة ذاتها يعمل الإعلام العربي في تناول قضاياه ومن بينها القضية العراقية.
ما أبرز ما اكتسبته من العمل في الصحيفة الأسترالية بنمطها الغربي ونفس الشيء من العمل في الكويت ومقدار تأثر الحكومة في البلدين بما ينشر؟
أهمّ مما اكتسبته هو إني تخلّصت من لغة "المزامط" ومواقف "الفزعة" والانجراف مع الأخطاء الشائعة.. تعلمت أن الحوار مع الآخر يستوجب إيجاد مشتركات فكرية، وهذا ما يفتقده الحوار بين الشرق والغرب.. الشرق ثقافة مبنية على أساس حالة الإيمان المطلق، الإيمان المطلق بالدين والمفاهيم واللغة والأعراف والعلوم، أما الغرب فثقافته مبنية على أساس المنهج التجريبي الذي يدخل في تفاصيل كل شيء، ابتداء من الفلسفة وانتهاء بطريقة زراعة الطماطم.. إنهما ثقافتان لا تلتقيان.. إننا، كشرقيين، لا نصطدم بثقافتنا، كل استنتاجاتنا لابدّ وان تتوافق دائما مع قناعاتنا، إننا نعيد إنتاج أنفسنا، نجترّ أفكارنا، لا نتفاعل مع المعطيات الجديدة ما لم تتوافق مع ما نعتقد، لأن ذلك ينسف إيماننا وعقائدنا.
أما فيما يتعلق بالمقارنة بين الصحافة الأسترالية والصحافة الكويتية، فالعامل المشترك الأهم هو الاستقلالية (بحدود مقبولة) والاعتماد على الإعلان في تمويل المؤسسات الإعلامية، ذلك يجعلها في منأى عن الهيمنة الحزبية والسياسية، كما أن ثقافة الإعلان منتشرة في المجتمع كسياق حياة اقتصادية، فتجد أي صالون حلاقة صغير يعتمد على الإعلان في الترويج إلى خدماته.. الاعتماد على الإعلان لا يعني الاستقلالية الكاملة بالتأكيد، فقد تتعرض إلى ضغوط من نوع آخر من قبل الشركات المعلنة، لكن عقلية التاجر قابلة للتفاوض، على العكس من عقلية السياسي.
لو كان بمقدور حسن الفرطوسي الروائي الصحفي أن يعود بالزمن ليلتقي حسن الفرطوسي، المتمرد، الثائر، فماذا سيقول من واقع تجربته عبر البحار؟ هل ممكن أن يقول له لا فائدة أهتم بشؤونك فلا سبيل لإنقاذ شعوب طغاتها هم أبسط مشاكلها؟
الموقف ابن الظرف الذي يكون فيه الإنسان، لا أدري ما الذي سأقول له (لي) لو عاد الزمان إلى أيام انتفاضة 1991، قد لا يسعدني اختيار أن أكون محارباً، لم أعد مؤمناً بالحرب مهما كانت مقدسة، لكني قطعاً لن أقول له "أهتم بشؤونك واترك سواها" لأن الشأن الخاص لا ينفصل عن الشأن العام أبداً، من العبث أن نعتقد بجدوى العيش في حديقة خاصة مزروعة وسط أرض جدباء.. كما من المحزن التخلي عن الشأن العام بحجة إننا شعوب خربانة، فهذا الخراب نتيجة حتمية للشعار الخائب "أنا ومن بعدي الطوفان".
* ما تقييمك لوضع الإعلام العراقي؟ خيبة أمل؟ صيرورة متوقعة؟ مخاض عسير ينبئ بولادة ميتة؟ ومن أكثر من تتابعهم من الإعلاميين؟ واي صحيفة تحرص على قرأتها والكاتب الأكثر تفضيلا لديك؟
الإعلام العراقي يمتلك طاقات لا يستهان بها، لكن حجم الخراب أكبر بكثير من أن يتصدى له إعلام محاصر بالعنف والإرهاب الديني.. أعول كثيرا على شريحة شبابية بدأت تنمو في السنوات الأخيرة، تعمل على الصعيد المدني وهي قريبة من المحيط الإعلامي وهذا تقارب قد يمنح طاقة إضافية إلى الطرفين.. أتابع برنامج "بالعراقي" على قناة الحرة عراق، وأقرأ جريدة المدى وجريدة العالم وموقع العالم الجديد.