سامان نوح: صحافتنا الاستقصائية تكابد في مناخ فوضوي
الصفحة الرئيسية > تجربة > سامان نوح: صحافتنا الاستقصائية تكابد...
الصحافة الاستقصائية من أهم الأشكال الصحافية تأثيراً في المجتمع، لتعاطيها مع قضايا أساس ترتبط بفئات واسعة، وغالباً ما تكون هذه القضايا مصيرية، لكن ممارسة العمل الاستقصائي في العراق والبلدان العربية ، مهمة محفوفة بالكثير من المصاعب والمخاطر، كما يقول مدير شبكة "نيريج" للصحافة الاستقصائية، سامان نوح.
ويقول نوح في مقابلة مع "بيت الإعلام العراقي"، إن "الفوضى السياسية والمخاطر الأمنية وطبيعة القوانين السائدة، المانعة لحرية الوصول إلى المعلومات، تشكل عقبات تواجه العمل الاستقصائي، وبالتالي لا بد من وجود تشريع يتيح الحصول على المعلومة وحماية الصحافيين، كما أن هناك حاجة لدعم العمل الاستقصائي من المنظمات المحلية والدولية".
هناك من يقول إن الصحافة الاستقصائية غير ممكنة في الوطن العربي بعامة والعراق بخاصة.. كيف تنظر إلى ذلك؟
تتباين القدرة على الخوض في العمل الصحفي الاستقصائي من دولة لأخرى في العالم العربي بحسب الأنظمة السائدة في كل دولة وأوضاعها الداخلية، لكن معظم الدول العربية تعاني من ندرة العمل الاستقصائي،وقلة التحقيقات الاستقصائية التي تخوض في القضايا الحساسة كالفساد، وهناك دول تكاد تنعدم فيها الصحافة الاستقصائية كالخليجية،وفي مصر، كانت هناك مساحة جيدة للعمل الاستقصائي قبل خمس سنوات، لكن مع عودة الجيش للحكم، غابت التحقيقات الاستقصائية، على العكس من الوضع في تونس حيث هناك مساحة جيدة لمثل هذا العمل حتى الآن.
اما بقية الدول العربية وبسبب أنظمتها غير الديمقراطية،فلا توجد بيئة صالحة للعمل الاستقصائي، ولعل العراق يتقدم على معظم الدول العربية من حيث سقف الحريات المتاحة للكتابة في مختلف القضايا التي تعالجها التحقيقات الاستقصائية، لكن بالمقابل هناك خطراً يتهدد الصحفيين الاستقصائيين بالعراق، يتمثل بالجماعات الإرهابية والمليشيات وبعض الأذرع المسلحة في الأحزاب، كما أن هناك جانباًسلبياً آخر يتمثل بضعف استجابة الحكومة والجهات المعنية بما ينشر من تحقيقات، والحال نفسه موجود إلى حد ما في لبنان، التي تنتج برامج استقصائية.
وقبل سنوات أنجزنا تحقيقا استقصائيا مهماً في مدينة الموصل، كشفنا فيه أن المدينة عملياً خارج سلطة الحكومة العراقية، وأن تنظيم القاعدة (لم يكن تنظيم داعش قد أعلن عن نفسه حينها)،يتحكم بالمدينة ويستحصل ملايين الدولارات كـ"أتاوات" تفرض على التجار والمقاولين والشركات وأصحاب المهن بل وحتى أساتذة الجامعات والأطباء وغيرهم، وأن التنظيميتحكم حتى في التعيينات وفي قرارات مديري الدوائر الحكومية، لن الحكومة لم تتنبه مع الأسف، لخطورة المعلومات التي وردت في التحقيقات، وكانت النتيجة أن احتل (داعش) المدينة بعدها بعام واحد، في غضون أيام.
هل أن التحقيقات الاستقصائية المنتجة في العراق مستوفية لمعايير الصحافة الاستقصائية العالمية؟ ولماذا؟
في العراق عرفنا الاستقصاء بمفهومه ومعاييره العالمية منذ نحو ستة أعوام، لذا فهي تجربة حديثة جداً، ولدت في بيئة معقدة أمنيا وسياسيا وإداريا، لذلك هناك ندرة في التحقيقات الاستقصائية، خاصة أن الصحف تتجنب عادة الخوض في هذا المجال من العمل الصحفي لأسباب تتعلق بصعوبته وبكلفته العالية والمشاكل الأمنية المحتملة.
وتعتبر مؤسسة "نيريج" للصحافة الاستقصائية، الأولى في العراق، إذ تنتج تحقيقات تلتزم معظمها بالأسس والمعايير العالمية للعمل الاستقصائي، مع أنه تصدر أحياناً تحقيقات لا تلتزم بتلك المعايير كلها لأسباب عديدة، بينها الفوضى السياسية والمخاطر الأمنية وطبيعة القوانين السائدة، لأن القوانين في العراق لا تتيح بعد حرية الوصول إلى المعلومات ما يدفع بالصحفيين إلى اللجوء لطرق غير مباشرة أوسرية، للحصول على المعلومات، ما قد يعرضهمإلى خطر تلقي معلومات غير دقيقة، خاصة مع صعوبة التحقق منها من مصادر متعددة.
لكن هنالك من يأخذ على الصحفيين العراقيين عدم خبرتهم في العمل الاستقصائي؟
إن ذلك ناجم عن حداثة الصحافة الاستقصائية في البلد، وإن معظم الصحف لا تريد الخوض فيها برغم أننا نرى ونسعى إلى ضرورة وجود وحدة استقصائية في كل صحيفة أومؤسسة إعلامية، لإنجاز تحقيقات في العمق، تعالج مختلف القضايا المتعلقة بالاقتصاد والصحة والبيئة والتعليم والعقد الاجتماعية، فضلاً عن قضايا الفساد الإداري والسياسي وغيرها، فبدون ذلك لن تتحقق معالجات حقيقية للعقد والمشاكل المفصلية في الواقع العراقي. ونأمل أن تتمكن كل صحيفة عراقية من إنجاز عدة تحقيقات استقصائية سنوياً بمشاركة منتسبيها، إذ لا يمكن الاعتماد على مؤسسة واحدة لإنجاز التحقيقات الاستقصائية كلها.
وهنا لا بد من التأكيد على أن العراق يحتاجإلى عدة منظمات معنية بدعم الصحافة الاستقصائية لتطوير هذا المجال الصحفي المهم، وتمكين أكبر قدر من الصحفيين خوض غماره، ما يتطلب دعم المؤسسات الدولية الداعمة للإعلام الحر، والمؤسسات المحلية المعنية بمكافحة الفساد،لتطوير هذا المجال الحيوي، فلا يمكن أن يظل عدد الذين يكتبون تحقيقات معمقة بحدود 20 صحفيا في العراق كله.
الحصول على المعلومة مشكلة تواجه الصحفي في العراق،فكيف هو الحال مع الصحفي الاستقصائي؟
فعلاً، لذلك لا بدمن تشريع قانون واضح وصريح، يضمن للمواطن حق الحصول على المعلومات من مصادرها المختلفة، وفي حال تحقق ذلك وطبق القانون على أرض الواقع، فإنه يسهل عمل الصحفيين عموما بما فيهم الاستقصائيين، الذين يحتاجون إلى الغوص في دقائق المعلومات من مصادر مختلفة،للوصول إلى الحقيقة.
إن الصحفيين الاستقصائيين غالباً ما يلجؤون إلى وسائل متعددة للوصول إلى المعلومات حين لا تسمح القوانين أو الإجراءات أو الأوضاع السياسية والأمنية بذلك،لذلك ينبغيإتاحة حرية الوصول إلى المعلومات بدقة، بما فيها المعلومات التي يصنفها البعض بالسرية، والتحقق منها واستحصال وثائق بشأنها، ودون ذلك لا يكتمل العمل الاستقصائي.
هل تعتقد أن الحافز المادي عنصراً مهماً لتطوير الصحافة الاستقصائية؟
إذا كان القصد حصول الصحفي على عائد مالي جيد من العمل الاستقصائي، فالعكس هو ما يحدث، لأن هذا النوع من العمل يتطلب جهداً كبيراً مقابل محدودية العائدالمالي أو حتى من دون أي عائد، لكن العائد المعنوي والنتاج النهائي المتمثل بكشف شيء مهم، هو ما يدفع الصحفي للخوض في هذا الغمار من العمل.
وعموما فإن التحقيقات الاستقصائية مكلفة مادياً لذلك تحتاج إلى دعم من إدارات الصحف وباقي وسائل الإعلام، ومن منظمات محلية ودولية، وأحيانا إلى عمليات تشبيك واسعة بين عدة صحف ومؤسسات إعلامية للوصول إلى نتائج مهمة في تحقيق معين، فبدون توفر الدعم المالي يصعب إنجاز تحقيقات استقصائية، مع ضرورة الإشارة إلى أن هنالك صحفيين يدفعهم الحافز المهني والإنساني وإرادة التغيير والتصحيح، إلى التضحية بأشهر من وقتهم وتحمل المخاطر لتحقيق شيء يفخرون به ويخدمون مجتمعهم وبلدهم.
ما هو أبرز ما تحتاجه الصحافة الاستقصائية في العراق على صعيد التشريعات؟
نحتاج إلى قانون يتيح حرية الوصول إلى المعلومات، على أن يتضمن إلزام الجهات الحكومية بنشر المعلومات طوعياً، وتسهيل الوصول إلى التي لم يتم نشرها،إلى جانب تعديل بعض فقرات قانون حماية الصحفيين بحيث لا يتم معاقبة الصحفيين على وفق قانون العقوبات العراقي، بل بموجب قانون حماية الصحفيين، وبفرض غرامات وليس بالحبس أو السجن، فضلاً عن تعديل بعض الفقرات الخاصة بقانون العقوبات.
ما هو عدد التقارير التي أصدرتها "نيريج" الرائدة في الصحافة الاستقصائية منذ تأسيسها؟ وماهي أبرز مشاريعكم المقبلة؟
إن "نيريج" تنجز كل عام نحو عشرة تحقيقات صحفية، قد يكون هذا الرقم متواضعاً، لكن هذا الرقم يظل كبيراً وسط تعقيدات العمل ومصاعبه، ومحدودية الدعم، وعدم وجود صحفيين مستعدين للخوض في العمل الاستقصائي المعقد والمرهق والمكلف والخطر، لذلك فإن من الضروري أن نشهد ولادة مؤسسات ومنظمات أخرى داعمة للصحافة الاستقصائية، و"نيريج" مستعدة للمساعدة في ذلك، كما أنها تخطط وتعمل فعليا لإيصال ثقافة العمل الاستقصائي وخبراتها المهنية إلى طلبة كليات الإعلام في أكثر من ست جامعات عراقية، وقد نجحت في الإسهام بإدخال الصحافة الاستقصائية في مناهج بعض الكليات.
ولدى "نيريج" مشاريع طموحة في مجال التحقيقات المتلفزة، والتعاون مع الصحف والجامعات، وكل ذلك ستحدده الإمكانات المالية المتاحة، وهنا أقدم شكري لمنظمة دعم الإعلام الدولي (IMS) التي لولا دعمها المتواصل لما ظهرت شبكة "نيريج" ولما نشرت عشرات التحقيقات المهمة للشبكة التي حققت العديد منها جوائز عربية ودولية، وأسهم بعضها في تعديل قوانين وتشريعات محلية، وكشفت وأبرزت بعضها حقائق ووقائع وملفات مهمة في مختلف المجالات.