سهى عودة: الموصل ظلمت إعلاميا.. وصحفيوها دفعوا ثمناً باهظاً
الصفحة الرئيسية > تجربة > سهى عودة: الموصل ظلمت إعلاميا.....
منتظر القيسي
سهى عودة موصلية وناشطة مدنية مهتمة بحقوق المرأة، هربت من الهندسة إلى الصحافة، وعملت في العديد من الصحف والمواقع الإعلامية المحلية والعربية والدولية الناطقة بالعربية، وتستعين بها صحف غربية منذ سقوط الموصل،(405 كم شمال العاصمة بغداد)، بيد مسلحي تنظيم (داعش)، كمصدر للتوثق والتعليق على الأخبار المتسربة من مدينتها، تنشط منذ عامين، في التعريف بمعاناة الموصلين تحت حكم االتنظيم المتطرف.
عن بدايات شغف عودة بالصحافة، ومنعرج حزيران ٢٠١٤، كان لـ "بيت الإعلام العراقي" وقفة معها:
- متى بدأت في عملك الصحفي، وهل انعكس المزاج العام في مدينة ارتبطت منذ عام 2003 بالتوترات الأمنية والسياسية على توجهاتك؟
بداياتي كانت قبل سبع سنوات، بعد أن قررت الهروب نوعا ما من اختصاصي كمهندسة، فذهبت مع والدتي وطرقنا باب إحدى الصحف المحلية، وقوبلت بترحيب كبير من كادر العمل الذين عبروا لي عن تفاجئهم من جرأتي وتقبل أهلي لنشر ما أكتب في مدينة تعرف بأنها محافظة جداً بعاداتها وتقاليدها.
كتبت في البداية مخاطبات للواقع، لنقد الوضع العام بدون تحديد معين، إلى أن أصبحت لدي معرفة أكثر بأهمية القلم، وضرورة تحديد الهدف المنشود مما يكتب الصحفي وما يتناوله الكاتب، فتلقيت العديد من الورش التدريبية على أيدي صحفيين ومصورين غالبيتهم أجانب، كما تدربت على الكتابة الصحفية والتغطية الإخبارية إضافة إلى التصوير الصحفي.
ولم يكن المناخ العام للموصل سهلا أبداً، فهي مدينة عرفت بخطرها على العاملين في الصحافة والإعلام، خاصة بعد ٢٠١٠، إلى أن تم احتلالها من قبل التنظيم المتشدد، ومع ذلك كنت أحاول أن أكون حذرة، وقد استذكرت والدي عندما رأى أول منشور لي في الجريدة إذ نصحني بأن أواصل العمل مع "الابتعاد عن السياسة"، وهو ما كان صعباً في مجتمعنا الذي تدخل السياسة في مفاصله كافة، ابتداء من تكدس النفايات إلى إمكانية الاختطاف والقتل لأنك انتقدت فلان أو علان.
- هل كان التركيز على قضايا المرأة جزءاً من هذا الابتعاد عن مكمن الخطر؟
على العكس، التركيز على قضايا المرأة والحديث عن التمييز الذي تتعرض له في مجتمعاتنا كثيرا ما يعتبر من المحرمات في المجتمع، خاصة قضايا التحرش، الاستغلال الجنسي وعدم وجود حماية قانونية كافية لها، العنف بما تشمله هذه الكلمة من انتهاكات كبيرة تمارس ضدها ابتداء من الزواج المبكر إلى عدم وجود حرية بالملبس والتنقل والسفر وانتهاكات كثيرة أخرى. وهذا بحد ذاته يدخلنا في خانة لا أريد أن اسميها "صراعات"، لكنها في دائرة المطالبة بحقوق المرأة، وهو ما يجعلني كامرأة، في تصادم مع مجتمع محافظ كذلك الموجود في مدينة الموصل بخاصة، والمجتمع العراقي بعامة. ومنذ سبع سنوات حتى اللحظة أنا متمسكة بهذا الخط من العمل، وكثيراً ما تعرف أعمالي بأنها موضوعية إلى حد بشأن المرأة.
ومنذ ٢٠١٤ بعد سقوط المدينة، وحتى اللحظة، باتت قصصي الصحفية، تتناول بصورة أشمل وأوسع، الانتهاكات والقتل الذي تتعرض له المرأة في محافظة نينوى، لاسيما داخل الموصل، على اعتبار أن المدنيين متواجدين فيها إلى الآن.
- سقوط الموصل فتح أعيننا على مدينة أخرى كانت بالفعل "ساقطة أمنياً" بيد التنظيم، كيف كان يعيش السكان؟
قبل سقوط المدينة، كان المواطن الموصلي منكفئا داخل مدينته، كل ما يهمه هو أن يتوفر ما يكفيه لتربية أولاده وضمان استمرار حياتهم وتعليمهم، لمن توفرت له الفرصة للتعليم، وسط التهديد الأمني وسيطرة الجماعات المتطرفة على مرافق الحياة في المدينة منذ ٢٠٠٤، وسط إهمال حكومي واضح، وعدم سعيها لحل مشكلة فقدان الأمن في المدينة.
وقد جعل ذلك الموصل تغيب إعلامياً، لعدة أسباب، منها عدم اهتمام وسائل الإعلام العراقية والعربية بها، إضافة إلى عدم وجود سقف حرية يكفي للصحفيين والعاملين بمجال الإعلام من أبناء المدينة، لنقل صورة واضحة عما يحدث داخلها فضلاً عن محافظة نينوى. فالصحفيين استهدفوا من بدايات ٢٠٠٦، ومن لا يتذكر الصحفية سحر الحيدري، التي كانت تعمل في وكالة (أصوات العراق).. سحر كانت من أوائل الصحفيات الموصليات اللواتي تم قتلهن في ٢٠٠٧ من قبل المتشددين، وتوالت جرائم استهداف الصحفيين بدون إلقاء القبض على إي من الفاعلين.
اليوم المواطن الموصلي خرج وأنتشر في المحافظات العراقية كلها، بل وأنحاء العالم، هذا إن لم يكن متشردا في المخيمات، فباتت له مساحة أكبر للتعبير أو الصراخ بسبب ما يحدث. ومع احتلال المتطرفين للموصل، باتت المدينة حديث الساعة من قبل الآخرين بل والعالم أجمع، فكيف لا تكون حديث الموصلي نفسه، خاصة في ظل تفاقم معاناته من جراء تأخر تحريرها، وخسارته كل شيء، مادياً ومعنوياً.
- العمل الإعلامي في الموصل كما هو في بقية أنحاء العراق، نمطياً لا يتعدى نقل تصريحات السياسيين، ما الذي جعل التنظيم يستهدف صحفيي الموصل بهذا الشكل الدموي؟
كما قلت لك الصحفي في الموصل كان مستهدفاً منذ بدايات وجود تنظيم القاعدة في المدينة، بعد ٢٠٠٤، ما يعني أن قتل الصحفيين لم يكن مرتبطا باحتلال تنظيم (داعش) للمدينة. واعطيتك مثل قبل قليل عن الصحفية سحر. لكننا نعلم أن مهنة الصحافة طالما كانت تشكل تهديداً ومصدر خوف للسلطات في مجتمعاتنا القلقة التي تعاني من أنظمة سياسية هشة. القلم والكاميرا يرعب الأنظمة المسيطرة سواء كانت هذه الأنظمة حكومية أم خارجة عن القانون. لذا فإن الاعتقال أو القتل هو أسهل الطرق للخلاص من الصحفي في بلداننا.
- غادرتي الموصل في ذروة أحداث سقوطها بيد (داعش)، فهل وصلتك نصيحة ما أم أن حدسك دفعك للرحيل؟
في حزيران ٢٠١٤ كانت لدي قراءة بعيدة لما ستؤول إليه أوضاع المدينة، على اعتبار أننا كنا متعودين على الاشتباكات بين المسلحين والقوات الأمنية العراقية، والتفجيرات اليومية. وفي آخر شهرين قبل سقوط المدينة، كانت التفجيرات متصاعدة بجنون، هل تصدق أنه في أحد الأيام، انفجرت على السيارة التي تقلني مع زملائي إلى العمل، ثلاث عبوات ناسفة، خلال أقل من ساعة واحدة!
لذلك خرجت مباشرة وقت سيطرة التنظيم على المدينة، وكلمة خرجت "هينة وبسيطة جداً" لا يمكنها وصف حالة الرعب والخوف والحزن، الذي كنت أعانيه يومها، إن الموصليين بل وأهالي نينوى بعامة في تلك الأيام كانوا في خطر، وخروجنا كان مغامرة كبيرة، وسط خمسة أيام من تبادل إطلاق الهاونات والصواريخ التي تسببت بموت العشرات من الناس بسبب سقوطها على المنازل، مع منع التجول في المدينة، كان يوماً مهولاً، وكان من الصعب جداً العثور على سيارة أجرة لأن الكل مشغولاً بنقل أهله والهرب بهم، والزخم كان فظيعا على نقاط الخروج من المدينة، ولك أن تتصور وجود الآلاف على مخارج الموصل وهم يسعون للنجاة بأنفسهم.
الناس كانت تهرب سيراً على الأقدام، وكنت اجتاز المناطق وسط مشاهد الدمار والانفجارات والنيران وحطام الأبنية والسيارات المتفحمة، وآخر شيء وكنت أبكي وينتابني شعور غريب لا أعرف مصدره، بأنني لن أعود للمدينة مجدداً.
- منذ سقوط الموصل وأنت في نشاط إعلامي مستمر للتعريف بجرائم (داعش) بحق أهالي المدينة، فهل تجدين صدى لجهودك، وهل بالإمكان أكثر مما كان؟
أنا صحافية أعمل بشكل مستقل، ورغم ذلك أحاول جاهدة أن نقل الصورة والأحداث التي تجري داخل الموصل عبر كتابة قصص صحفية عن المدنيين لعدة مواقع أو وسائل إعلامية، برغم صعوبة الحصول على المعلومة وسط انقطاع الاتصالات بين الموصل وخارجها. كما أنني في المدة الماضية كنت أعد وأقدم برنامج إذاعي عنوانه "حكي مصلاوي" باللهجة الموصلية المميزة، ونجحنا في بثه داخل مدينة الموصل، وكنت سعيدة بالردود التي تصلني من داخل المدينة، حيث كانت تردني مقترحات أو كلمات عرفان تعبر عن مدى فرح الأهالي بسماع برنامج بلهجتهم المحلية. وحاولت من خلال "حكي مصلاوي" تسليط الضوء على الوجه المشرق للمدينة، التي تزخر بالعلماء والمثقفين، تكلمنا عن الموصل بعاداتها وتقاليدها وقببها وكنائسها والدور الريادي لجامعتها.
وركزنا على التعايش المختلط الذي كان في نينوى، كنا ننشد إعادة روح التسامح من جديد. وبالوقت نفسه لم نهمل المشاكل التي يعانيها أبناء نينوى اليوم، على إثر النزوح والتهجير. استضفنا العديد من القامات الموصلية ضمن حلقات البرنامج، وأصبح لدينا مجموعة كبيرة من المتابعين على صفحة البرنامج على الفيسبوك. برنامجي الإذاعي وإن كان يصنف ضمن المحاولات الخجولة، لكنها تبقى محاولات بنوايا صادقة.
وبالنسبة لي هناك الإمكانية لتقديم أكثر وأكثر في حالة وجود دعم حقيقي لجهودي كصحفية وناشطة تهتم بحقوق الإنسان والمرأة، بشرط توفر المصداقية والمهنية لدى المؤسسات الداعمة، لأننا ومع الأسف، نعاني من وجود الكثيرين ممن يدعون العمل الإعلامي لكنهم بعيدون جداً عن المهنية.
- هل قادك جهدك في مواجهة الأزمة ونشاطك الصحفي قبلها لاكتشافات غير متوقعة، لإعادة اكتشاف مدينتك؟ أروى لنا عن أبرز اكتشافات الصحفية سهى عودة؟
عندما كنت أعمل على إعداد حلقات برنامج "حكي مصلاوي"، نصحتني الناشطة المدنية، هناء أدور، بالقول "اجعليه رحلة استكشاف لمدينتك يا سهى".. وهذا ما حدث فعلاً، لأن كل حلقة كانت تجعلني اقرأ وأبحث وأسأل، كنت أهيم بين عناوين الكتب التاريخية، أسماء المؤرخين، الفنانين والكتاب، حتى المواضيع التي قد يراها المتلقي انها سهلة مثل الأكلات الشعبية، الأمثال، المقامات الموصلية لم تكن هينة بالنسبة لي وأخذت مني وقتا طويلا لكنني استمتعت.
أما بالنسبة لعملي وأنا داخل المدينة وتنقلي المستمر لتغطية المواضيع والبحث عن مصادر، فكانت رحلة استكشاف ميدانية عرفت من خلالها شوارع الموصل وأزقتها وشممت عبق الماضي عبر "العوجات الموصلية"، وجسور المدينة التي قطعتها مئات المرات وأنا أتنقل بين جانبيها الأيمن والأيسر، ويصعب عليّ نسيان المجموعة الثقافية، شوارع السرجخانه، البوابات الأثرية التي تنتصب في شوارع الموصل في المهندسين وبوابة نركال، هذا كله يٌعتبر التكوين الثقافي للمدينة، لذا لا يوجد ما هو أبرز اكتشاف بحد ذاته، لأن الموصل هي إحدى عجائب الدنيا، على الأقل بالنسبة لي، كإنسانة وصحفية، فمهما رحلت عنها وابتعدت فإن نيران حنيني لها لن تخمد.
- في هذا الإطار برزت على الفيس بوك عدة صفحات إخبارية موصلية مهمة، توفر أخباراً وصوراً وتقارير فريدة من نوعها، ما مدى مصداقيتها بالنسبة لك كموصلية، وكيف تقيمين تأثير التفاعل السلبي الذي غالبا ما تجابه به؟
بعد العاشر من حزيران ٢٠١٤ ظهرت الكثير من الصفحات، ونشطت صحافة المواطن بشكل فعال، وبإمكان الكل أن يكتب وهو جالس في بيته، بعض من الصفحات فيها مصداقية إلى حد ما، وأستطيع أن أميزها لأنني ما زلت على تماس مع الحدث داخل المدينة، ونجحت بعض من تلك الصفحات في استقطاب الجمهور.
ولو تحدثنا على التفاعل السلبي للجمهور، فقد بات أمراً طبيعيا من قبل المتلقي، بسبب التهم التي التصقت بالموصلي على أنه "داعشي" و "بلا شرف"، وتهم كثيرة أخرى معيبة وخادشة للحياء، وما زاد من حدة التفاعل السلبي وجود صفحات محرضة ضد أهالي الموصل، وغالبا ما تكون عبارة عن صفحات ممولة من جهات معينة أو يملكها شخص لا يهمه إلا إثارة النعرات الطائفية والعنصرية، من هنا قد فتجد أحدهم يجلس في أمريكا مثلاً، وينقل أخبار الموصل بمعلومات مزيفة، وينادي بضربها بالكيمياوي أو إبادتها، لكن مثل هذه الصفحات تبقى أصواتا نشازا ستمر وينساها الناس. وأرى أن الحدة والتهجم عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لن ينتهي لكنه في هذه المرحلة أصبح أقل بعض الشيء، وهذا بحد ذاته مؤشرا ايجابيا بعض الشيء.
لكن هذا لا يمنع وجود صفحات وأشخاص يسمون أنفسهم بـ"الصحفيين والناشطين المدنيين الموصليين"، لكنها معدودة لأشخاص يسترزقون من المصيبة التي حلت بمحافظة نينوى، وأن مثل هؤلاء الناس باتوا مجرد تجاراً للأزمات ليس إلا.