عبد الزهرة زكي: كفاءة الصحفي وحدها لا تخلق إعلاماً متقدماً
الصفحة الرئيسية > تجربة > عبد الزهرة زكي: كفاءة الصحفي...
شاعر وصحافي من جيل الحرب، حالفه الحظ فنجا من رصاص المعارك وأوشك أن يخذله في مواجهة أقلام الدسائس.
رئيس القسم الثقافي في جريدة الجمهورية لسنوات، فلم يألُ جهدا ولم يوفر فرصة، ليمنح جيلا من الأدباء والمثقفين من خارج دائرة الولاء للسلطة وثقافتها التعبوية الرخيصة، المجال لنشر إبداعاتهم وتنضيج مواهبهم، متحايلا على شروط المؤسسة تارة ومراهنا على تفهم رؤسائه تارة أخرى، حتى إذا ما أجهز النظام على ما بقي من مساحات المهنية، وجد نفسه بعد محاولات عدة للاستقالة، محاصرا بشكوك السلطة وإشاعات عن نيته الهجرة للانضمام إلى صفوف المعارضة.
عن ماضي الصحافة الصعب وحاضرها الذي لا يقل صعوبة كان لـ “بيت الإعلام العراقي” هذا الحوار مع الصحافي والشاعر عبد الزهرة زكي.
* درست الهندسة وعملت صحفيا، ما كانت الأسباب التي أدت بك للتخلي عن مهنة ذات حيثية اجتماعية يعتد بها للعمل صحفيا؟
ـ اخترت الدراسة العلمية لأسباب ثقافية أكثر مما هي مهنية وظيفية، وهذه مفارقة. كنت أريد أن أتمتع بثقافة علمية اعتقدت أنها تغني رؤيتي للحياة وتعزز ثقافة أدبية كنت قد بدأت بتلقيها بشكل شخصي قبل بلوغي الجامعة بأعوام. في حياتنا يمكن لك تحصيل المعرفة الأدبية أو الفلسفية من خلال التحصيل والاجتهاد الشخصي لكن المعرفة العلمية شأن آخر لا يمكن بلوغه إلا عبر الدراسة الأكاديمية.
قبل الجامعة وقبل توجهي للفرع العلمي في الدراسة الثانوية كنت أعرف أن حياتي المهنية والوظيفية لن تكون بعيدة عن الكتابة التي هي كل اهتمامي. شاءت الظروف بعد ذلك أن لا أتواصل بدراسة الهندسة لكني خرجت من دراستي العلمية بمحصلة أفادتني حتى في كتابة الشعر، وفي رؤيتي للعالم، وفي تنظيم تفكيري أيضاً. المرة الأولى التي كنت فيها في الصحافة كانت تدريبا لم يستمر طويلا في سنوات السبعينيات وكانت في صحيفة طريق الشعب، بالضبط في قسمها الثقافي.
كنت حينها طالبا إعداديا. كانت فترة تدريب قصيرة كما قلت لكنها كانت أساسية في تنمية توجه وظيفي عملت فيه طيلة التسعينيات بعد الحرب الثمانينية. واقعا استفدت من خبرات كثيرين واستفدت من اطلاعي المتواصل ومتابعتي لما يحدث في الصحافة والإعلام خارج البلد برغم ظروف المنع السائدة آنذاك. أحببت عملي كثيراً، وكان الحب مدخلاً مهماً للنجاح، طبعاً إن كنتَ مقتنعا مثلي بنجاحي في العمل الصحفي.
*احترفت الصحافة في فترة حرجة من تاريخ العراق، فكيف وجدت هوامش الصحافة الثقافية حينها، أضيق أم أوسع مما تخيلت؟
ـ نعم، تسرحت في نهاية عام 1989 بعد ثماني سنوات خدمة عسكرية في الحرب. عملياً بدأ عملي في الصحافة مع بوادر الحرب الثانية، مع دخول الكويت والخروج منها وبدء الحصار، وهي سنوات شهدت بدايات تفكك الدولة وبداية ارتخاء القبضة الحديدية في الكثير من المفاصل. فمع كل التماسك الظاهري الذي ظل رأس النظام يحرص على الظهور به في الإعلام بعد هزيمة الكويت المذلة والانتفاضة والقمع الوحشي الذي جوبهت به إلا أن العديد من الإجراءات الفعلية كانت تعبّر بوضوح عن قلق داخلي عميق. انعكس هذا القلق، قلق السلطة، على الحياة الثقافية بوضوح.
كان من نتائج هذه الخلخلة توفُّر فرصة مناسبة لظهور جيل جديد من الأدباء. كانت الحرب الثمانينية صارمة في التقاليد التي فرضتها على الثقافة العراقية. دار النشر الوحيدة في البلاد وهي دار الشؤون الثقافية فُرض عليها مثلاً منع نشر أي كتاب لأي أديب خلال الثمانينيات ما لم يكن مكرساً بكامله أو بجزء أساس منه عن الحرب. كان الأدباء الذين لم يكتبوا عن الحرب من منظور السلطة موضع ارتياب، وكل هذا جعل الثقافة تغادر الثمانينيات وهي مشحونة بالخوف والتحسب وبانغلاق عديد الأدباء على أنفسهم أو مغادرتهم البلد.
هذا الحال شهد بعد 1991 تغيراً واضحاً بعد إرخاء القبضة على الثقافة؛ ظهور جيل جديد من الأدباء ومعه توفر مجال نسبي من حرية النشر في الصفحات الثقافية للصحف اليومية، وغض الطرف عما بات ينشر من كتب خارج إطار المؤسسة الحكومية وبما عُرف بطباعة الاستنساخ. وإذا كانت هذه التطورات تبدو طفيفة الآن فإنها في حينها كانت بمثابة ثورة داخل الحياة الثقافية.. هكذا ظهر، وللمرة الأولى بعد عقدي السبعينيات والثمانينيات، جيل جديد لم يمر بدهاليز مؤسسات الدولة ورقاباتها المتعددة، هذا هو ما أسهم مثلاً في تغيير الشعر العراقي وفي ظهور بدايات مرحلة جديدة بالكتابة الروائية وفي خلق فعاليات بمختلف المؤسسات بعيدة عن ضرع الحكومة، لنتذكر القاعات الأهلية للفنون التشكيلية مثلاً، ولنتذكر أيضا تعدد مراكز الفعاليات الثقافية.
أذكر هنا زيارة الشاعر صلاح ستيتية وإقامتنا جلسة حرة له خارج إطار المؤسسات، كنا مجموعة أدباء من أجيال مختلفة ونظمنا الجلسة بلا أبالية أراها أنا نفسي غريبة الآن، كيف أقدمنا عليها، لقد حصل الشيء نفسه مع مفكرين مغاربة زاروا البلد خلال التسعينيات. استذكرت كل هذا ولم يسعني المجال لاستذكار الكثير الآخر وذلك لأشير من خلاله إلى توفر شيء من مناخ متساهل مع الثقافة، وغذّاه عملنا في الصفحات الثقافية بحيوية عرّفت بالجيل الجديد وبالأنواع الأدبية والشعرية الجديدة.
لم يكن الأمر وردياً دائماً.. كانت التقارير أحياناً شغّالة، وكان يعيننا في ذلك وجود عدد من الأدباء المتفهمين والمتسامحين على رؤوس عدد من المؤسسات. أذكر هنا أن الشاعرين سامي مهدي وحميد سعيد أبديا قدراً طيبا من الرعاية ومن التفهم ومن إغلاق ملفات كان يصعب غلقها في سنوات سابقة.
كان معهم كثير آخر من الأدباء والمثقفين الذين لم يقلوا شيئا عن تلك الروح المتسامحة، قد لا يسعني المجال هنا للإشارة إليهم، لكني أظل أشعر بالعرفان لهم في الأقل لموقفهم من قضية اعتقالي الذي تعرضت له في ظرف عصيب وحساس ومساعدتهم إياي، أذكر هنا الصديقين أمجد توفيق وعبد المنعم حمندي كمثالٍ لآخرين معهم. هذا الجو الثقافي الحيوي لم يدم طويلاً طبعاً، بعد 1997 تغيرت الأمور في الصحافة الثقافية، وقد تحدثت عن ذلك بتفصيل في كتابي (واقف في الظلام).
*ما أشرت إليه يبدو مخالفا للانطباع الشائع عن عقد التسعينات الذي بدأ بتغييب شخصية بحجم عزيز السيد جاسم والصحافي الموصلي ضرغام هاشم، ما الذي أخطأ فيه هذان الصحفيان وتجنبه بقية الصحافيين وخصوصا عبد الزهرة زكي.
ـ لا، لم يخطئ الراحلان في شيء. في أردأ مستويات الحرية الفكرية لا يعد ما قاما به جريمة أو خطأ. أنا كنت أتحدث عن مرحلة تلت مرحلة الانتفاضة. لقد عملت في الصحافة الثقافية، وكان كل تركيزي ينصب على فسح مجال من أجل ظهور ثقافة وأدب أكثر حرية وأكثر صلة بالطبيعة الحقة للأدب. كانت الحياة الثقافية بأمسّ الحاجة إلى مساحات مهما كانت ضيقة ومحدودة من أجل أن تتنفس هواء صحياً. كان جيل جديد ينشأ، وكانت هناك أنواع أدبية قد حُرِّم عليها أن تظهر وتتنافس وتنمو بسلام، وأستطيع أن أزعم أني وزملاء آخرين ساعدنا بمستويات متباينة في توفير بيئة مناسبة لهذين النشوء والظهور.
لم تكن المهمة سهلة ويسيرة طبعاً، لكن دقة التحسب كانت تكفي لتوفير ما يمكن توفيره من تلك البيئة إنما بلا أحلام أكبر مما يمكن ولا استسلام دون ما يجب. واقعاً واجهت وواجه مثقفون كثرٌ تحديات خطيرة؛ نشر أحدهم مقالا ضدي كان يمكن به أن يودي بحياتي حين اتهمني بأخطر ما يمكن أن يتهم به عراقي آنذاك: (ينفذ في الثقافة العراقية ما عجزت عن تنفيذه المخابرات الأمريكية، إنه جزء من الريح الصفراء)، تعبير الريح الصفراء حينها كان يراد به إيران. جهود بعض المثقفين لفلفت المقال وما قيل فيه.
دائماً الحياة لا تخلو من مبادرات ومبادرين طيبين. المقال المنشور يتذكره معظم الزملاء ممن عاشوا تلك السنوات، واحتفظ حتى بنسخة منه بخط يد كاتبه الذي قد يقرأ الآن حوارك هذا معي والذي أدعوه ليطمئن؛ لن أبوح باسمه حتى لو تهددت حياتي، فإن كان ما فعله نتاجا لخطأ انفعالي فلن أقابل خطأه بخطأ، إما إذا كان مصرا على ما قال وفعل فهو يكون قد ارتكب جرماً، أترك له الجريمة واختار الصفح، أعيد أيضاً وأقول: لست أنا الذي يقابل الجريمةَ بجريمة.
حين تختار أن تعمل لتحقق شيئا في مثل تلك الظروف فعليك أن تعرف أنك ماضٍ في حقل ألغام. دقتك وحدسك وحدهما العاصمان من خطأ الضغط على لغم لينفجر. قلت أيضاً قبل قليل إن الأمور لم تمضِ كما نتمنى، لقد أطيح بهذه المساحات بعد 1997 ولكن من بعدما ترسخت أقدام جيل واتسعت الفرص التي لم يعد معها أبناء الجيل محتاجين لصفحة ثقافية ليعرّفوا بأنفسهم وبنتاجهم.
*ما كان تفسيركم لهذا التراجع في هوامش الصحافة الثقافية، الهوامش التي لم تزد عن إيجاد حالة من التوازن بين مساحة ''الثقافة'' التعبوية وبين مساحة الثقافة العامة الرصينة؟
ـ في السنوات بين 1991 وعام 1997 كان التوازن في الصفحات الثقافية لعموم الصحف اليومية يميل لصالح النشر الثقافي الاعتيادي، غير التعبوي وغير الموجه.. كانت هناك مواد موجهة، أدبية في معظمها، تنشر ولكنها لم تكن هي الغالبة.. هذا في المقياس الكمي لكن حتى في المقاييس النوعية فإن المنشور غير الموجه كان يمتلك من الرصانة والقيمة والفاعلية أكبر بكثير مما يمتلكه المنشور الموجه. كان هذا الحال يجعل من المنشور التعبوي في تلك الصفحات خلال تلك السنوات مادة نافرة، وكان هناك تفاهم صامت بين المحررين والكتاب والقراء، تفاهم على ضرورة وجود مادة تعبوية في الصفحة الثقافية ليتاح نشر سواها بيسر ومن دون إثارة مشكلات يمكن تخيّل نتائجها السيئة.
واقعا فإن ما فعلته في (ثقافية) الجمهورية في تلك السنوات هو ابتكار صفحات متخصصة معظم أيام الأسبوع بمجالات مختلفة شكلت بمجموعها هوية الصفحة الثقافية للجريدة.. لقد استحدثنا مثلا صفحة كانت تقدم قراءات حديثة في التراث الأدبي، واستحدثنا صفحة خاصة بالثقافة الشعبية، كما استحدثنا صفحة أخرى عُنيت بالترجمة، كان هناك يوم للحوارات الثقافية كما أذكر، كرست صفحة أسبوعية باسم (المسرح الشعبي)، وكانت صفحة تريد مواجهة المسرح الهابط من جانب والمسرح الشكلاني من جانب آخر، وكانت تنحاز لمفهوم المسرح الشعبي كما قدمه قاسم محمـد وإبراهيم جلال وسامي عبد الحميد وسواهم، وربما كانت هناك صفحات أخرى لم تحضر الآن ببالي. لقد عمدت لفسح المجال للجيل الجديد من خلال إشراك زملاء في تحرير هذه الصفحات؛ كانوا شبّاناً حينها وهم من أفضل كتّابنا ومثقفينا الآن، وكانوا حينها يستكتبون كتّاباً متخصصين للنشر في الصفحات التي يحررونها. كان مثل هذا الإجراء يجعل من غياب المادة الموجهة غياباً مبرراً ومقبولاً، مع هذا كان لابد من ترك مجال لمثل تلك المادة فلم تكن جميع صفحات الأسبوع متخصصة. قلت إنه كان لابد من توازن، لابد من تفهّم الظرف الذي تعمل فيه.. السنوات الأخيرة هي التي شهدت تراجعاً مهولاً في المنشور الأدبي والثقافي الرصين. وكان وراء هذا التراجع عوامل عدة من بينها وأهمها كثرة الوشايات ضد ما كان يحصل في الصفحات الثقافية التي وصفت بأنها صفحات (تبشر بالفكر الليبرالي المخالف للثقافة القومية الاشتراكية)، لقد جاء هذا في ثنايا تقرير مكتوب ضدي وضد الشاعر فاروق يوسف بشأن ما كان ينشره في (الجمهورية)، حيث أُجري تحقيق بهذا الشأن، وما زال بعض أطرافه أحياءً سواء ممن أججوا أو ممن ساعدوا بغلق التحقيق. الزملاء الذين كانوا يحررون صفحات أخرى في صحف أخرى واجهوا هم أيضا مشكلات مماثلة، وفي إثر ذلك بدأ الضغط والتراجع وانهيار ما تحقق في بدايات التسعينات.
* عانيت من الوشاة في عهد الاستبداد وفي عهد الحرية عانيت من دعوات الاجتثاث الثقافي، كيف تعاملت مع إدراج أسمك في هذه القوائم "السوداء" التي انتشرت على الويب بعد نيسان 2003؟
ـ لم أقف كثيرا عند قوائم صاحب الاسم المستعار (ساهر..) كنت أشعر بمسؤولية عمل شيء في الحياة الثقافية وفي صنع إعلام جديد بعد 2003، والتوقف عند التفاهات يعيق أي عمل جاد. لكن بعد 12 عاماً من العمل والتعرض لشتى أنواع الخطر وبعد التضحية بالصحة والراحة وسواهما يحق لنا التساؤل: ماذا قدم للبلد وللشعب هذا المتستر باسم مستعار؟ لو كان مؤمنا بشرف ما قام به لما تستر واختفى وحجب حقيقته، خصوصا أن معظم مثقفي العراق جاءت أسماؤهم بتلك القوائم وليس بين هؤلاء من يمتلك سلاحا أو ميلشيا أو سلطة من شأنها تخويف هذا التافه.
لماذا لا نفكر بمحاولة خلط الأوراق؟ لماذا لا نفكر بانطوائه على نية قذرة لتوريط قوى ما بعد 2003 بقمع المثقفين وتشريدهم من البلد أو القتل مستغلاً لذلك الفوضى التي أوقع بها العراق خلال تلك السنوات؟ إن كان يخاف ويتحسب من لصق التهم بمثقفين عزّل فتوارى وراء اسم مستعار فكيف يطلب منهم أن لا يخشوا أقسى سلطة دكتاتورية عرفها التاريخ؟ إنه لا يتعدى كونه مصابا بلوثة كراهية الآخرين وتمني قتلهم إشباعاً لرغبته السادية، لكن دوافعه الأخرى المحتملة تبقى هي الأخرى معقولة ومتوقعة. حسنا أنك قاربت بينه وبين الوشاة كتّاب التقارير، فكلاهما ملتاث بالكراهية وحب الانتقام، وهي مشاعر سوداء تحطم الضمير والشرف وتعمي البصيرة.
* الفورة في عدد الصحف والمجلات التي أعقبت 9 نيسان2003 كانت متوقعة بعد عقود من الكبت لكن بالنسبة لصحافي محترف كيف تقيم أثر تلك الظاهرة على مهنية الصحافيين والصحافة العراقية اليوم؟
ـ كان متوقعا صدور هذا الكم. حين تجد نفسك فجأة تتكلم بعد عقود من الصمت فبالتأكيد ستجرب أولا جهازك الصوتي. لن يكون مهما ما تقول، المهم أن تعيد اكتشاف قدرتك على الكلام. نعم، صدمنا بالضوضاء التي رافقت الصياح والصراخ المنطلق من عشرات المطبوعات ومن ثم من إذاعات وقنوات تلفزيونية أرضية وفضائية. لكن كان متوقعاً أيضاً أن يتعب الصارخون؛ هكذا توقف عدد من الصحف بعد أسبوع من إصدارها، وتوقف عدد آخر بعد شهر، وبمرور الأشهر والأعوام ها نحن أمام عدد محدود مما يعتد به من صحف. كان لكل ناشر أهدافه ومطامحه، وإمكاناته أيضاً، وكانت الخبرة والتجربة غير كافيتين للكثيرين لتكون طموحاتهم على قدر إمكاناتهم. انتهت هذه الفترة وفورتها ولكن من المؤسف أننا لم نستطع أن نخلق ركنا مهما من أركان العمل الصحفي وهو التوزيع. ما قيمة أن تملأ عشرات الصحف ولكن من دون سوق لترويجها وبلوغها القراء؟ دائما نبتكر حججا للفشل؛ هكذا نعزو فشل التسويق مثلاً إلى الظرف الأمني. لا نريد أن نفكر بكيف نجعل من المطبوع حاجة فعلية للقارئ وليس سلعةً نفرضها عليه. كان هذا يتطلب كفاءات صحفية ومعها كفاءات تسويقية وإدارية وإعلانية.. تحول التسويق والإعلان إلى مظهر من مظاهر الفساد بينما لم نستطع تماما خلق إدارات خبيرة بالعمل الصحفي، وما أقصده هنا ليس إدارات التحرير، إنما إدارات المؤسسات الصحفية. هذه الإدارات بقيت موضع فساد مهني وخاضعة لمزاج لا مهني لمالكي المؤسسات. لذلك تراكمت مشكلات التسويق مع مشكلات الإدارة وخلقت أزمات لم يشفع معها كفاءات التحرير للنهوض بالصحف. خلال هذه السنوات نجحنا في أن نخلق عدداً من الصحفيين الشبان الكفوئين، كانوا ماهرين وقادرين على اختصار الزمن ومؤهلين بتصورات طيبة عن طبيعة العمل الصحفي كما هو عليه في الإعلام المتقدم. لكن كفاءة الصحفي وحدها لا تخلق إعلاما متقدما. هكذا نحن في أزمة لا أدري إلى أي مدى ستطول.
* ما رأيك في اعتبار البعض أن سهولة إصدار الصحف وإطلاق الإذاعات والقنوات التلفزيونية في تلك الفترة فضلا عن سيل الفضائيات العربية والإقليمية الناطقة بالعربية، ساهم في تفتيت الهوية الوطنية؟
ـ الدافع لكل ما حصل كان سياسياً. حتى التمزيق الطائفي كان موجها بوسائل السياسة ولأغراضها. أسهمت في هذا عوامل سياسية كثيرة تبدأ بالإدارة الأمريكية وتمرّ بتنظيم العملية السياسية على مقاس الطبيعة الحزبية التي هيمنت بعد 2003 ولا تنتهي عند التدخلات الإقليمية متنوعة المصادر والاتجاهات والدوافع وتأثيرها في الوضع الجديد في العراق. الإعلام في كل هذا التداخل كان وسيلة.
نحن في منطقة تستخدم الإعلام بأبشع مما تستخدم فيه السلاح؛ إنها منطقة تعالج جبن أنظمتها عن التواجه في ما بينها فتستعير سلاح الإعلام في معارك لا تقل ضراوة عن الحروب، وقد جرت العادة خلال العقدين الماضي والحالي أن يجري توجيه هذا السلاح نحو المناطق الأضعف: العراق أولاً ثم بلدان الربيع العربي. نحن في حرب إقليمية بدأت بالإعلام ثم تطورت إلى استخدام المال والمخابرات والتسليح والمقاتلين، لكن الإعلام بقي يتمتع بمركزية واضحة في هذه الحرب المستعرة. بعد 2003 صار من غير الممكن حجب الإعلام وتدفق (المعلومات).. أضع المعلومات بين قوسين لكون الإعلام في معظمه، لدينا وفي دول المنطقة، لا يكاد يفصل بين المعلومة والرأي. المهارات الخبيثة هي التي تقوى على أن تمرّر الرأي بوصفه معلومة، الرأي هو الأهم لدى معظم القنوات والصحف.
خذ الجزيرة، مثلا، وشعارها الأبرز (الرأي والرأي الآخر). إنها قناة رأي حتى وهي تقدم أخبارها، حتى في طرق تعبير مذيع الأخبار بوجهه وبحركات يديه وبطبيعة نظرته.. فهلوة باتت مفضوحة ولكنها تريد التستر على نفسها بإلحاق (الرأي الآخر) بـ (الرأي). بعيداً عن العراق تخوض (العربية) وملحقاتها صراعاً ضارياً مع (الجزيرة) وملحقاتها في مصر وفي ليبيا وذلك بالإنابة عن سياسات وقيادات البلدين المالكين: العربية السعودية وقطر، والإرادات الدولية الداعمة لهما أو الصامتة على تهورهما. في مواجهة الحال العراقي سيختلف الأمر؛ تجتمع أطراف إعلامية كثيرة محلية وإقليمية، مختلفة ومتفقة، عند هدف واحد هو المزيد من التأزيم في العراق، وهي جبهة لا تجد في مقابلها رادعا إعلاميا.
الفساد العراقي هو السبب الأساس في غياب المناعة العراقية ضد ما يتعرض له العراقيون من ضخ إعلامي مشحون. لا مشكلة مع تطور ثورة الاتصالات.. المشكلة تكمن في أننا في بيئة إقليمية تسيء استخدام كل منجزات الحداثة وما بعد الحداثة وتهدر كل ثرواتها بعقليات التنازع القبلي وبإرادة الطغيان المستبد. والمشكلة تكمن أيضا، وهذا هو الأخطر، في عجز قيادات العملية السياسية عن خلق نموذج وطني يعتد به ويكون نجاحه كافيا لدحر أية قوة إعلامية مفرطة بالتوجيه وبالتشويه.
*من جانب آخر ما زالت الطبقة السياسية تحاول كل جهدها التضييق على الإعلام والصحافة في العراق بدعوى التنظيم، برأيك كيف نفك هذا الاشتباك بين ضرورات وضع ضوابط مهنية للإعلام ورغبة النافذين في السلطة لاستغلالها كذريعة لمصادرة الحريات الصحفية؟
ـ في تجربة مثل تجربة العراق ما كان ممكناً للطبقة السياسية وسلطاتها التي قامت بعد 2003 أن تضيّق على الإعلام والصحافة والقوانين المنظِّمة لعملهما لو لم يكن هناك هزالٌ في الكيان الصحفي نفسه يسمح بتلك الاختراقات. لا ينبغي أن تنظر إلى ما يمكن أن تهبه سلطة سياسية للإعلام قبل أن تنظر إلى طبيعة ناس هذا الإعلام، وإلى كيفية تنظيمهم هم لحياتهم، ومدى إصرارهم على حرياتهم، يجب أن تعرف الصورة التي يرون عليها مهنيتهم، وما حدود قدراتهم الأخلاقية على التمنّع في التعامل مع أية محاولة لاستخدامهم كتابعين. قلت في مناسبة سابقة إن بناء إعلام حر في دولة تريد أن تكون ديمقراطية هو مسؤولية مشتركة بين السياسيين والإعلاميين، كنت متفائلاً، وكان هذا وهماً.
كان الوهم ليس في تحديد هذه المسؤولية المشتركة وإنما في تقدير موقف الطرفين: الصحفيين والسياسيين والحرص على بناء ديمقراطية وبناء إعلام حر. في الواقع لم يكن هناك سوى نفر محدود من السياسيين معني فعلاً ببناء دولة ديمقراطية، وكان هؤلاء خارج الدائرة الضيقة لقوة النفوذ السياسي غير المعني بالديمقراطية، وهو نفوذ لم يكن له من الديمقراطية سوى كونها مطية لبلوغ السلطة، بينما في الجانب الآخر كان القطاع الأوسع من الصحفيين غير مؤهل فكرياً ومهنياً وأخلاقياً للسعي من أجل تأسيس إعلام حر.
الأقلية المؤهلة لم تستطع فعل شيء أمام موجة عاتية من الإفساد والتخريب كانت تريد تدمير كل شيء أمامها. في الفوضى والفساد والخراب فقط ينفذ غير الأكفاء ومنتحلو الصفة. وهذا ما حصل فعلاً. نحن إلى الآن لم نستطع فرض نظام من التعاقد لعمل الصحفيين داخل مؤسساتهم يضمن حقوقهم ويؤمّن كرامتهم وعدم إذلالهم. حصل هذا لغياب التضامن بين الصحفيين.
وغياب التضامن حصل نتيجة غياب التنظيمات النقابية الجديرة بالاحترام. ألم تخرج التشريعات السيئة من داخل تنظيمات صحفية ما زالت تدافع عن تلك التشريعات، وما زال قطاع عريض من أشباه الصحفيين ومنتحلي الصفة يديم هذا الحال؟ الفساد السياسي يربي إلى جنبه فساداً في كل شيء وليست الصحافة بمنجى من هذا.