وسائل الإعلام والعنف الأسري.. إشكالية الواقع والدور
الصفحة الرئيسية > أخبار وملفات > وسائل الإعلام والعنف الأسري.. إشكالية...
ركز الكثير من العلماء والدارسين حول وسائل الإعلام ومضامينها المختلفة، بعد ملاحظة ما تقوم به هذه المضامين من تأثيرات مختلفة الأشكال والمستويات، ومن بين أهم تلك المضامين نجد تلك التي تقدم أو تشجع أو تساهم في انتشار العنف بكل أشكاله المعنوية والمادية، وما قد تتركه مثل هذه المضامين الإعلامية من تأثيرات سلبية على مستوى الفهم والإدراك وحتى القيم والاتجاهات، على مختلف المراحل العمرية خاصة الأطفال والمراهقين.
دوافع وجود ظاهرة العنف الأسري
قبل التطرق لمختلف دوافع وجود هذه الظاهرة لابد أولا من التعريف بها وبأشكالها المختلفة، حسب ما يؤكده عبد الله العلاف في دراسة أكاديمية بجامعة الشارقة الإماراتية حول العنف الأسري وآثاره على الأسرة والمجتمع، أن العنف الأسري هو أحد أنواع العنف وأهمها وأخطرها، وقد حظي هذا النوع من العنف بالاهتمام والدراسة كون الأسرة هي ركيزة المجتمع وأهم بنية فيه.
والعنف الأسري هو نمط من أنماط السلوك العدواني، والذي يظهر فيه القوي سلطته وقوته على الضعيف، لتسخيره في تحقيق أهدافه وأغراضه الخاصة، مستخدماً بذلك كل وسائل العنف، سواء كان جسدياً أو لفظياً أو معنوياً، وليس بالضرورة أن يكون الممارس للعنف هو أحد الأبوين، وإنما الأقوى في الأسرة، ولا نستغرب أن يكون الممارَس ضده العنف هو أحد الوالدين إذا وصل لمرحلة العجز وكبر السن.
وعلى ذلك فإن العنف الأسري هو أحد أنواع الاعتداء اللفظي أو الجسدي أو الجنسي، والصادر من قبل الأقوى في الأسرة ضد فرد أو الأفراد الآخرين وهم يمثلون الفئة الأضعف، مما يترتب عليه أضرار بدنية أو نفسية أو اجتماعية، وللعنف أنواع كثيرة وعديدة، منه المادي المحسوس والملموس النتائج، الواضح على الضحية، ومنه المعنوي الذي لا نجد آثاره في بادئ الأمر على هيئة الضحية، لأنه لا يترك أثراً واضحاً على الجسد وإنما آثاره تكون في النفس.
ويقسم عبد الله العلاف في نفس الدراسة، الدوافع التي يندفع الإنسان بمقتضاها نحو العنف الأسري إلى:
- الدوافع الذاتية:
ونعني بهذا النوع من الدوافع تلك الدوافع التي تنبع من ذات الإنسان ونفسه، والتي تقوده نحو العنف الأسري، وهذا النوع من الدوافع يمكن أن يقسم إلى قسمين كذلك وهما:
• الدوافع الذاتية التي تكونت في نفس الإنسان نتيجة ظروف خارجية من قبيل الإهمال وسوء المعاملة والعنف الذي تعرض له الإنسان منذ طفولته، إلى غيرها من الظروف التي ترافق الإنسان والتي أدت تراكم نوازع نفسية مختلفة، تمخضت بعقد نفسية قادت في النهاية إلى التعويض عن الظروف السابقة الذكر، باللجوء إلى العنف داخل الأسرة، فلقد أثبتت الدراسات الحديثة بأن الطفل الذي يتعرض للعنف إبان فترة طفولته، يكون أكثر ميلاً نحو استخدام العنف من ذلك الطفل الذي لم يتعرض للعنف فترة طفولته.
• الدوافع التي يحملها الإنسان منذ تكوينه، والتي نشأت نتيجة سلوكيات مخالفة للشرع، كان الآباء قد اقترفوها مما انعكس أثر ذلك -تكويناً-على الطفل، ويمكن درج العامل الوراثي ضمن هذه الدوافع.
- الدوافع الاقتصادية:
إن هذه الدوافع مما تشترك فيها ضروب العنف الأخرى مع العنف الأسري، إلاّ أن الاختلاف بينهما هو في الأهداف التي ترمى من وراء العنف بدافع اقتصادي، ففي محيط الأسرة لا يروم الأب الحصول على منافع اقتصادية من وراء استخدامه العنف إزاء أسرته، وإنما يكون ذلك تفريغاً لشحنة الخيبة والفقر الذي تنعكس آثاره بعنف من قبل الأب إزاء الأسرة، أما في غير العنف الأسري فإن الهدف من وراء استخدام العنف إنما هو الحصول على النفع المادي.
- الدوافع الاجتماعية:
إن هذا النوع من الدوافع يتمثل في العادات والتقاليد التي اعتادها مجتمع ما، والتي تتطلب من الرجل حسب مقتضيات هذه التقاليد قدراً من الرجولة، بحيث لا يتوسل في قيادة أسرته بغير العنف والقوة، وذلك أنهما المقياس الذي يمكن من خلالهما معرفة المقدار الذي يتصف به الإنسان من الرجولة، وإلاّ فهو ساقط من عداد الرجال.
ماذا تقدم وسائل الإعلام؟
في الولايات الأمريكية المتحدة مثلا، يمكن للأطفال على صغر سنهم أن يشاهدوا عبر شاشة التلفزيون، أكثر من عشرين ألف عملية قتل، ومئة ألف شكل من أشكال العنف الأخرى (الاعتداء والتحرش الجنسي، الابتزاز، التهديد، العنف اللفظي...)، إضافة إلى ما تساهم به ألعاب الفيديو في هذا الموضوع من خلال تعليم وتدريب الأطفال على مهارة التصويب وكيفية التخطيط لقتال العدو المفترض، وبالنسبة للمراهقين والشباب فهم يحملون الملايين من قطع السلاح المختلفة، نتيجة تعرضهم لأكثر من أربعين ألف مشهد للقتل عبر شاشات التلفزيون الأمريكية، ولقد حاولت دراسة أمريكية تحت عنوان وسائل الإعلام والعنف، أن تدرس أسباب العنف ومظاهره المختلفة المقدمة عبر وسائل الإعلام، وكيفية منع الجريمة المترتبة على التعرض لهذا العنف على الأقل، ووصلت إلى أن أشكال ومظاهر العنف في التلفزيون لوحده دون باقي وسائل الإعلام، تسيطر على خريطة البرامج بنسبة تتراوح ما بين 85% إلى 90%، وهي نسبة مرتفعة جدا تعكس بالفعل مستوى ونسبة الجريمة في المجتمع الأمريكي، الذي خرجت منه الكثير من مؤسسات المجتمع المدني التي تنادي بالتقليل من مظاهر العنف المعروض عبر وسائل الإعلام، لما له بالغ التأثير على مستوى الفرد والمجتمع.
وحسب مقال لأحمد إبراهيم حول تأثير الإعلام على الرأي العام للحد من ظاهرة العنف المجتمعي، أكد فيه أن بعض البحوث أثبتت وجود علاقة وثيقة بين السلوك العدواني والتعرض لهذه المضامين ويمكن إيجاز أهم الآثار التي تتركها مشاهدة العنف على النحو التالي:
- رفع حدة الآثار النفسية والعاطفية عند الفرد مما قد يقود إلى ارتكاب سلوك عنيف تجاه الآخرين، ويتوقف سلوك الفرد العنيف (أي استجابته للمشاهدة) على مدى إحساسه وشعوره بالإحباط والضيق والتوتر.
- تعزيز السلوك القائم بالفعل داخل الفرد، حيث تعمل المشاهدة للعنف أو قراءتها على تعزيز وتدعيم السلوك الموجود أصلا عند المشاهد، وذلك لأن الشخص العنيف يسبب دوافع العنف داخله، ويرى السلوك العنيف المتلفز على أنه تجربة حقيقية.
- التعلم والتقاليد: من المعروف أن إحدى طرق تعلم الإنسان هي التقليد والمحاكاة، من هنا تأتي خطورة عرض أفلام العنف لأن البعض قد يقلدها على غرارها.
هذا ما يمكن أن قوله على العنف المقدم عبر وسائل الإعلام الأمريكية، فماذا عن المنطقة العربية؟ فكما هو معروف فإن الكثير من البرامج التي تقدمها وسائل الإعلام العربية وخاصة الفضائيات، هي برامج مستوردة من أمريكا وغير أمريكا (مسلسلات، أفلام، برامج واقع..).
ففي دراسة ذكرها مختار حمزة في كتابه "أسس علم النفس الاجتماعي" وأجرتها وزارة الإعلام الكويتية، تؤكد هناك علاقة طردية بين تزايد أعمال العنف ونشر الجريمة إعلامياً يظهر تأثير مشاهدة العنف على الصبية بعد فترة ويكون مدمراً تعليم المراهق أحدث تقنيات الجريمة وتعميق إحساسه بعدم الرضا، كما أكدت دراسة ميدانية حديثة، حول دور وسائل الإعلام في نشر العنف والجريمة بين الشباب، أجراها فريق عمل تابع لإدارة البحوث والترجمة بوزارة الإعلام الكويتية، أن هناك صلة بين تزايد أعمال العنف ـ بنسب متفاوتة ـ وما يتم نشره في وسائل الإعلام المختلفة، شملت الدراسة فئات مختلفة من الأعمار من كل محافظات الكويت أعطت رأيها فيما تراه وتقرأه من أخبار الجرائم وتشاهده، وهي آراء مدعمة بلغة الأرقام التي لا تعرف التأويل أو التشكيك.
ويؤكد حلمي سالم في مقال حول دور وسائل الإعلام في التوعية في مجال مكافحة العنف، على أن هناك دراسة حول السلوكيات التي يكتسبها الأطفال من التعرض للعنف في التلفزيون أجريت على عينة من الآباء والأمهات، أشارت فيها النتائج إلى على أن التلفزيون يعد من أكثر وسائل الإعلام المسئولة عن اكتساب الطفل للعنف، وتبين من النتائج أن المواد الأجنبية هي الأخطر في المساعدة على نشر العنف لدى الأطفال، حيث يكثر فيها عرض أساليب القتل وإلحاق الضرر بالآخرين، واستخدام القوة في تحقيق الأهداف، فلقد أصبحت وسائل الإعلام مشحونة بمحتوى عنفي حقيقي، فنشرات الأخبار تكرس لإحداث القتل والانفجارات والدمار والصراعات وطقوس المآسي البشرية، ويتفنن الإعلاميون من أجل إحراز السبق في الإثارة، عبر التركيز على المشاهد الأكثر هولاً وقدرة على إحداث الصدمة الإدراكية، كما تتسابق الوكالات الإعلامية على التقاط أشد المشاهد فظاعة لأن لها أكبر سوق من حيث الإقبال على بثها، ورغم أننا أمام واقع إنساني حقيقي، إنما المشكلة تكمن في أن هذه المشاهد تعرض مسلوخة عن سياقاتها المختلفة، وتقدم مكثفة وكأنها حقيقة قائمة بذاتها، فلا اهتمام إعلامي بتاريخ هذه الأحداث ومسبباتها وإبعادها الإنسانية، مثلما يندر الوقوف عند نتائج بث هذا الغيض من العنف الحي على نفسية المشاهدين خاصة الأطفال والشباب، حيث لا يمكن تجاهل الآثار السلبية على نفسيتهم والإحساس بالعيش في عالم مليء بالأخطار والتهديدات.
ما هو دور وسائل الإعلام؟
تنال مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية والبصرية وحتى الإلكترونية على معظم اهتماماتنا، وتكاد تحاصر تلك الاهتمامات زمانيا ومكانيا، حيث تقدم إلينا هذه الوسائل مضامين مختلفة ومتنوعة مفيدة أحيانا وغير مفيدة أحيانا أخرى، ومن بين المضامين الضارة التي تعرضها وسائل الإعلام العنف بكل أشكاله ومظاهره، الشيء الذي يحتم علينا دراسة هذه الوظيفة التي تقدمها وسائل الإعلام، وفي نفس الوقت دراسة الدور الذي على عاتقها، الذي ينعكس في الجهود الإجرائية من جهة (دراسة المضامين الإعلامية قبل عرضها) والتوعوية من جهة أخرى (محاربة مظاهر العنف المجتمعي)، وللقيام بهذا الدور وحسب سليفيا بيطار في مقالها حول العنف في وسائل الإعلام، وجب الوقوف أمام فرضيتين أساسيتين هما:
- الفرضية الأولى: وهي فرضية الاتجاه السلبي، تدعي هذه النظرية بأن وسائل الإعلام تساهم في انتشار العنف، وذلك من خلال المضامين التي تضعها في متناول الجمهور من خلال التلفزيون والصحف والمجلات والفيديو والأفلام السينمائية، لذا يطالب أصحاب هذه الفرضية برقابة مشددة على المحتويات الإعلامية العنيفة كالإساءة للمرأة أو الطفل أو كبير السن أو أي فرد من أفراد الأسرة، كما أنهم يرون أن التخطيط البرامجي الهادف مع الرقابة قادران على تحويل وسائل الاتصال إلى أدوات فعالة لمواجهة العنف الأسري.
- وأما الفرضية الثانية، وهي فرضية الاتجاه النشط أو المشارك، فيتعدى تصورها نطاق الرقابة والبرمجة البناءة، ليصل إلى حد مساهمة وسائل الإعلام ومشاركتها المباشرة والصريحة في التصدي لمشكلة العنف الأسري، وذلك من خلال جهود توعوية مدروسة ومتكاملة يتم تنفيذها في إطار سياسة وطنية، وهذا يعني أن وسائل الإعلام يمكن استغلالها عن طريق الحملات الإعلامية، التي تسعى إلى استبدال المعلومات الخاطئة حول مفهوم العنف ومخاطره وآثاره على الأسرة والمجتمع، بمعلومات حقيقية ودقيقة وذلك باستخدام وسائل إعلامية مخصصة لهذه الغاية.
وعند الحديث عن استراتيجية إعلامية تحاول التصدي لهذه الظاهرة حسب حلمي سالم في نفس المقال، فإننا في الواقع نتحدث عن سياسة اتصالية تقوم على عدة مرتكزات حتى يتم لها النجاح، ولعل أهم هذه المرتكزات هو إعطاء حقائق رقمية عن طبيعة هذه المشكلة وحجمها ثم خصائص مرتكبيها النفسية والاجتماعية والعمرية والثقافية، ثم بعد ذلك تحديد من هذه الحملة الجهات المقصودة بالتوعية، ما هي خصائصهم؟
ويدخل ضمن هدف أو أهداف هذه الحملة تحديد مدى الضرر أو الآثار السلبية، التي يتركها العنف على الأسرة والمجتمع المحلي والمجتمع الكبير على حد سواء، ويجب ألا يغيب عن بال القائمين على هذه الحملة، أنها يجب أن نرتكز في مضامينها وتوجهاتها على العناصر الاجتماعية والثقافية والنفسية التي تميز مجتمع ما عما سواه.
ويمكن لمديري هذه الحملة حسب مؤتمر العنف الأسري الذي نظمته جمعية رعاية الطفل والأمومة بمركز معلومات والطفل بمدينة عيسى السورية، أيضا أن يستعينوا أيضا بقادة الرأي في المجتمع ليكونوا بمثابة جماعات ضاغطة ومؤثرة في غيرهم، ويلعب قادة الرأي في مجتمعات العالم الثالث بشكل عام أدوار كبيرة في التأثير على بقية أفراد المجتمع المحلي، شريطة أن يكونوا هم أنفسهم (أي قادة الرأي) مقتنعين بهذه الحملة، ومن القضايا الأساسية التي تجب مراعاتها في تصميم الحملات الإعلامية في مجال التصدي للعنف الأسري، هو التصميم الدقيق للرسائل الإعلامية المستخدمة، إذ يستلزم الأمر منهم أن يعرفوا كيف يستخدموا أساليب الإقناع المعروفة كالوضوح، والدقة والصحة، والكمال، واللطف ثم الإيجاز....
إذن فلا يشكل الإعلام "جزيرة معزولة" عن محيطها، وبالتالي لا يمكن له رغم حيوية دوره أن يعمل منفرداً، ولهذا لابد من وجود خطط حكومية متكاملة يكون الإعلام جزءاً منها، خطط واضحة الرؤية والأهداف، تصمم لها الاستراتيجيات اللازمة، وتعمل وفق آلية تحقق توحيد وانسجام الخطاب الإعلامي مع هذه الخطط من ناحية، ومع جميع المواد التي ينتجها ويبثها، إضافة إلى وجوب إعادة النظر في المدة البرامجية التوعوية المقدمة في هذا المجال، بحيث تتمتع بالقدرة على الوصول إلى الناس جميعاً وبأقصى درجات الجودة، فجودة ما يقدم هي المعيار الأساسي، لأن الرداءة تسيء إلى كل القيم والمعايير، كذلك اعتماد المادة البرامجية التفاعلية التي تتيح للناس التواصل والسؤال، والتعبير عن الرأي واكتساب المعرفة الحقوقية والقانونية،.
ومن الأمور الأساسية الحديث صراحة ودون مواربة أو مداهنة عن هذه الظاهرة، مع تقديم الحقائق المدعمة بالأرقام والوقائع والشهادات حول طبيعة وحجم الظاهرة والظروف المحيطة بها، وبيان تأثيراتها السلبية على أفراد الأسرة كافة كما على المجتمع، ثم لابد من العمل مع كتاب وصانعي الدراما التلفزيونية، للتحفيز على المشاركة في الرصد والكشف والتوعية، من خلال ورشات العمل والدورات واللقاءات، كذلك مع الشخصيات العامة والمعروفة والمؤثرة في حياة المجتمع والناس من قادة وصناع الرأي.